يعيش الفلسطينيون هذه الأيام على وقع ذكرى مؤلمة يحصدون مرارة أحداثها على مدى 66 عاماً، ألا وهى ذكرى نكبة 1948، التي مازالت آثارها ممتدة في حياة الأحفاد والعالم قد عجز عن وضع حدٍ لها، وإنهاء آثار الظلم التاريخي الممتد علي مدار عقود، وعلى الجانب الآخر، يحتفل الكيان الصهيونى الإسرائيلى بهذه الذكرى وكأنه يخلد تاريخ عصابة سرقت أرض وشردت أصحابها، فيما العالم الغربى بكل حلفائه ونفوذه، يقف متواطئاً مع إسرائيل، صامتا أمام خطط توسعاتها التى تستكمل بها ما حققته فى 48 من تنفيذ مبدأ غير قانونى وغير شرعى أرسته بريطانيا بوعد بلفور «إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق». ونكبة 48 تتعلق باحتلال إسرائيل لأرض فلسطين، وقيامهم بطرد أغلب الشعب الفلسطيني خارج دياره لإقامة دولة إسرائيل بالاستيلاء على معظم أراضي فلسطين من قبل الحركة الصهيونية، وطرد ما يربو على 750 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين، وتنفيذ عشرات المجازر والفظائع وأعمال النهب ضد أصحاب الأرض، وهدم أكثر من 500 قرية وتدمير المدن الفلسطينية الرئيسية وتحويلها إلى مدن يهودية، وطرد معظم القبائل البدوية التي كانت تعيش في النقب ومحاولة تدمير الهوية الفلسطينية ومحو الأسماء الجغرافية العربية وتبديلها بأسماء عبرية وتدمير طبيعة البلاد العربية الأصلية. جرائم إبادة برعاية دولية ومنذ نكبة 48 للفلسطينيين، وإسرائيل تمارس أعمال التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطينى بصورة ممنهجة، وتنفذ جرائم حرب داخل حدود فلسطين وخارجها، لتكريس مفهوم الدولة اليهودية الذى تحاول إقامته على أساس عنصرى وخرافة ال«وعد الإلهي» كشعب الله المختار، وكأن «وعد بلفور» وانتصار إسرائيل فى 48 جزء من مشروع استعماري مكتمل الأركان في فلسطين والوطن العربي، أنشأت اسرائيل لأجله شعباً بعد اختراعه، وأنشأت جيشا، وما زالت ترفض تحديد حدودها، وتصر على البقاء «قلعة» تأسست على أسطورة تميز العرق واسطورة «الجيش الذي لا يقهر» وهذا العام تحاول اسرائيل تتويج ما بدأته فى 48، بإقرار مشروع قانون يتم من خلاله إعلان إسرئيل «دولة قومية للشعب اليهودي» وهو القانون الذى أثار جدلاً واسعاً حتى داخل إسرائيل نفسها، فوجود دولة على أساس دينى خاصة يهودى، إنما يكرس لعنصرية الدولية، ويشكل تهديدا دينيا وسياسيا لدول الجوار العربى لإسرائيل ويعصف بكل جهود السلام. وتهدد إسرائيل فى الذكرى ال66 لانتصارها فى عام 48، تهدد «إما أن تبقى دولة يهودية أو تصبح كومة نووية»، وقد اختار بنيامين نتنياهو رئيس حكومة مناسبة حلول الذكرى السنوية ال66 للنكبة ودعا، في تحدٍ سافر «الكنيست» لإقرار مشروع هذا القانون الذى «يعيد الاعتبار للقيم الصهيونية»، ويحصن «إسرائيل» كدولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي» بما يستدعى بالتالى العمل على صيانة «صلته التاريخية بأرضه وفقا لهم، وحماية حق الهجرة إليها» بهذا يكشف نتنياهو الأهداف السياسية لمطلب الاعتراف ب«إسرائيل» ك«دولة يهودية متجاهلا أن دولة إسرائيل نفسها التى تقوم على أراض محتلة، كما يتواجد بها 21% من فلسطينى عرب 48 الذين رفضوا ترك بيوتهم وفضلوا البقاء تحت نفوذ المحتل، وذلك من إجمالى تعداد سكان إسرائيل البالغ (8.2 مليون نسمة)، وهو ما يعنى مزيدا من التطرف والعنصرية والاضطهاد والطرد ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض حال اعلانها كدولة يهودية. الآن وبعد 66 عاماً على وقوع النكبة الممتدة ترفض إسرائيل أى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، كما يرفض الاعتراف بدولة فلسطين، فيما يقف المجتمع الدولى بكل منظماته ودوائره عاجزاً عن إجبار إسرائيل لقبول تسوية سياسية عادلة أو حتى متوازنة للقضية الفلسطينية، أكثر قضايا العالم عدالة، بل، والحائزة أكبر عدد من مشاريع التسوية المقترحة، بدءاً برؤية «إيرل بيرل» رئيس اللجنة الملكية البريطانية عام 1937 والتى قضت بتقسيم فلسطين إلى قسمين: تقام في الأول «دولة إسرائيلية»، والثانى دولة فلسطينية تصل الى شرق الأردن، مرورا بمبادرة الرئيس الأمريكي أوباما عام 2011 والتى اقترحت إقامة دولة فلسطينية معزولة مقطعة الأوصال منزوعة السلاح والاستقلال والسيادة على 22% من أرض فلسطين، مقابل اعتراف العرب ومنهم الفلسطينيون ب«دولة يهودية» على الباقي منها، انتهاء الى مبادرة وزير الخارجية الأمريكى چون كيرى الأخيرة عام 2013، والتى أمهل فيها إسرائيل وفلسطين فرصة 9 أشهر انتهت فى 29 إبريل الماضى، للتوصل الى تسوية سلمية ومحاولة الاتفاق على القضايا والملفات المعلقة. إطلاق الأسري وكان ضمن المبادرة وفاء إسرائيل بوعدها باطلاق سراح دفعة من الاسرى القدامى، إلا ان اسرائيل استغلت توتر الاوضاع فى المنطقة العربية، والشقاق الخليجى، والصراع الفلسطيني – الفلسطينى بين فتح وحماس، وأعلنت عدم خضوعها لأى تنازلات يمكن ان تؤدى الى التسوية، ورفضت اطلاق سراح الاسرى ولعقت كل وعودها، وطالبت فلسطين بالموافقة – إجبارا - على تمديد اجل المفاوضات، وكأن تأجيل المفاوضات سيأتى بجديد لم يتحقق طيلة كل العقود التى مضت، بجانب مطالبة حكومة نتنياهو ببقاء الجيش «الإسرائيلي» في منطقة الأغوار الفلسطينية، والتى تشكل (30% من مساحة الضفة) وتناور إسرائيل سياسيا بهذه المطالب، من أجل دفع فلسطين الى مواجهة جدار «سد» والعودة الى المربع «صفر» فى المفاوضات. مواثيق دولية تحت الحذاء الإسرائيلي وما تمارسه إسرائيل الآن من تحد، واستمرار فى سياسة الاستيطان، والعناد، والتصلب فى التمسك بما ليس من حقها لإغلاق الطرق السلمية للتفاوض مع فلسطين، إنما من شأنه وضع فلسطين والعالم العربى مستقبلا فى مواجهة مع هذا التحدي الصهيوني، لأن هذه الازمات تعيد الصراع إلى مربعه الأول قبل 66 عاماً. فحكومة المستوطنين التي يقودها نتنياهو لا تبحث عن «حل تاريخي»، ولا حتى عن «حل وسط»، وهو ما من شأنه تجميد الصراع، وتغيير أشكاله، لوقت يطول أو يقصر، بل إن كل ما تسعى إليه هو استمرار التفاوض العبثي كغطاء لابتلاع الأرض الفلسطينية، وتفريغها من شعبها. لقد ضربت إسرائيل على مدى العقود الماضية ومنذ نكبة فلسطين فى 48 بكل المواثيق والعهود الدولية والاتفاقات بعرض الحائط، فبعد الاعتراف الرسمي الفلسطيني ب«إسرائيل» ارتباطاً بتعاقد «أوسلو»، وبعد اعتبار (عودة اللاجئين مسألة سيادية «إسرائيلية») في «وثيقة جنيف»، تزداد إسرائيل عنادا وجبروتا، معتمدة على التجاهل والصمت الغربى للممارساتها الاستعمارية، ومعتمدة على مساندة الإدارة الأمريكية لها، تلك الاخيرة التى تمارس ضغوطاً متنوعة للاعتراف ب«إسرائيل» ك«دولة يهودية» وهو ما سيفتح باب التطهير العرقي لمليون ونصف مليون فلسطيني داخل أراضي 48، كما سيعنى الشطب النهائي لحق عودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية، واستقطاع أجزاء من مساحة الضفة، وإبقاء القدس «عاصمة «إسرائيل» الأبدية». لقد زرعت نكبة 48 الكيان الصهيونى السرطانى على أرض فلسطين، ومنذ ذلك التاريخ تعتبر إسرائيل حرب 48 الخطوة الأولى في إستراتيجية طويلة الأجل لتكريس وجودها وإعلان دولة يهودية قومية، وهو ما عبرت عنه بصدق كاتبة يهودية محايدة بعيدة عن الانحياز والتعصب، هى تانيا رينهارت والتى قالت فى كتابها «إسرائيل - فلسطين.. كيف يمكن إنهاء حرب 1948) إن المؤسسين الأوائل لدولة إسرائيل كانوا يعتقدون أن الخطيئة التي ارتكبوها عام 1948 كانت الطريق الوحيد لإنقاذ الشعب اليهودي من «هولوكوست» آخر. لكن ما حدث عام 1948 لم يكن نهاية المطاف، فقد أتبع تلك الحرب حربًا أخرى عام 1967 أدت إلى انتصار إسرائيل على 3 دول عربية، واحتلالها للضفة الغربية، وقطاع غزة، وسيناء، ومرتفعات الجولان. لكن سيناء لم تلبث أن أعيدت لمصر عبر اتفاقية سلام أبرمت بين البلدين، فيما ظلت بقية الأراضي التي احتلت في تلك الحرب بقبضة إسرائيل. وقد أدت حرب 67 إلى تدفق أفواج جديدة من اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من الضفة الغربية وقطاع غزة (حوالى 250 ألف لاجئ حسب المصادر الإسرائيلية) لكن أهم النتائج التي ترتبت على تلك الحرب التطور والتحسن الملموس في العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية بعد النصر الكبير الذي أحرزته إسرائيل في تلك الحرب التي أثبتت من خلالها أنها الحليف القوي في المنطقة الذي بإمكان واشنطن الاعتماد عليه. وتضيف رينهارت إن الدعم الأمريكي غير المحدود الذي قدمته واشنطن إلى إسرائيل منذ ذلك الحين جعلها تشعر بأن لديها القدرة على عمل أي شيء دون أن تحاسب. عربدة إسرائيلية في لبنان وفي حرب 1982 قاد وزير الدفاع في ذلك الحين آريل شارون إسرائيل إلى مغامرة جديدة في لبنان في سلسلة حروب النكبة؛ بهدف إنشاء نظام جديد في الشرق الأوسط، وتدمير المقاومة الفلسطينية التي نشأت من معسكرات اللجوء في لبنان، وفرض السيطرة الدائمة على جنوبلبنان عند الشريط الحدودي. وقد أدى هذا الغزو إلى سقوط 11 ألف قتيل فلسطينيولبناني. ورغم أن المجتمع الإسرائيلي اعتبر تلك الحرب فى لبنان فاشلة، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم ينسحب من جنوبلبنان إلا عام 2000. فيما ظلت الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 67 كما هي. أدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987- 1993) إلى إحداث تغيير مهم في المجتمع الإسرائيلي الذي اكتشف أن فاتورة احتلال الأراضي الفلسطينية باهظة. وهو ما جعل الكثيرين من أطياف المجتمع يرفضون استمرار الاحتلال انطلاقًا من أرضية أخلاقية. أما من الجانب الفلسطيني، فإن النضال من أجل الخلاص استند - ولأول مرة - الى الإعلان صراحة عن حق إسرائيل في الوجود (على أرض ما قبل حرب 5 يونيو 67). وطبقًا للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 فقد أعرب الفلسطينيون عن قبولهم بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين مستقلتين، ليصبح النضال منذ ذلك الوقت نضالاً فلسطينيًّا - إسرائيليًّا مشتركًا. وفي عام 1993 كان الاحتلال الإسرائيلي يبدو وكأنه شارف على الانتهاء حيث ساور العديد من الفلسطينيين والإسرائيليين الاعتقاد بأن اتفاق أوسلو الذي تم التوقيع عليه في ذلك العام في واشنطن سيؤدي إلى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة في حرب 67 وإلى قيام دولة فلسطينية على تلك الأراضي. لكن ذلك مع شديد الأسف لم يحدث قط، إذ حولت القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية التي تظاهرت بتبنيها لخيار السلام روح اتفاقية أوسلو التي تنص على المصالحة والتوافق إلى وضع جديد يكرس الاحتلال بشكل أكثر تطورًا من مرحلة ما قبل أوسلو. يوم استقلالهم يوم نكبتنا وبالرغم من أن غالبية الإسرائيليين أنهكتهم الحروب وأرهقهم الاحتلال، إلا أن القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية لم تستطع إخفاء شهيتها في السيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية عن طريق القوة، وهو ما يوصلنا إلى الحقيقة أن حرب 48 لم تكن إلا الخطوة الأولى في استراتيجية إسرائيلية طموحة وطويلة الأجل للسيطرة على الأرض الفلسطينية وطرد الفلسطينيين من أراضيهم استكمالاً لحربهم الطويلة التي بدأوها عام 48، وذلك من خلال التطهير العرقي أو من خلال تكريس «أبارتهايد» عنصري كالنظام السابق الذي كانت تنتهجه حكومة جنوب إفريقيا. والآن يعيش الفلسطينيون على وقع نكبة 48، وقد خرجوا مؤخرا فى مظاهرات ضمت عشرات آلاف الفلسطينيين في داخل أراض تحت شعار: «يوم استقلالهم يوم نكبتنا»، واستغل ساسة اسرائيل المسيرات لصبّ مزيد من التحريض العنصري ضد فلسطينيي الداخل، واتهامهم بأنهم طابور خامس، بل وطالبهم أفيجدرو ليبرمان وزير الخارجية الاسرائيلى بمغادرة إسرائيل والتوجه إلى رام الله، والعيش تحت راية السلطة الفلسطينية، وهو نفسه طرح من قبل مشروعاً عُرف باسم «التبادل السكاني» ويقضي بترحيل فلسطينيي الداخل من عرب 48 في المثلّث، وإلحاقهم بالسلطة الفلسطينية، كبديل عن إبقاء الكتل الاستيطانية تحت السيادة الإسرائيلية. ومن كل ما سبق يثبت أن حرب 48 كانت بداية لخطة إسرائيل طويلة المدى، ويثبت أيضا أن إسرائيل لا ترغب فى سلام ولا فى وجود دولة فلسطين، وهو ما يستدعي نقل المفاوضات والصراع من تحت الرعاية الأمريكية إلى هيئة الأمم، والمطالبة بعقد مؤتمر دولي، يلزم قادة الكيان بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، والكف عن التفاوض عليها. فمن شأن ذلك أن يسهم في تعديل ميزان القوى لمصلحة القضية الفلسطينية، ولمصلحة إعادتها إلى صدارة اهتمام العالم، هذا هو التحول الأساسي الواجب على العرب اللجوء اليه بعد مرور 66 عاماً على النكبة، و20 عاما ويزيد على المفاوضات الثنائية العبثية المدمرة تحت الرعاية الأمريكية.