حكومة المهندس «محلب» استطاعت في فترة وجيزة أن تنال إعجاب وثقة نسبة كبيرة من الجماهير التي رأت في نشاطها الميداني ما يستحق الثقة في أنها - أي هذه الحكومة - تريد أن تتواصل بشكل مباشر مع الجماهير لتتعرف علي رأي واتجاهات الجماهير بشكل مباشر، فلا تنخدع بما تهمس به حاشية وشلل الوزراء. المؤسف أن هذه الحكومة اطمأنت - علي ما يبدو - علي أن هذه الثقة تطلق يدها لتتصرف في ثروات مصر بلا رقيب حقيقي، ودون أن تكلف نفسها مشقة اتباع الأسلوب الذي منحها ثقة الجماهير، فتطرح لحوار شعبي قانوناً يتعامل مع ثروات مصر بطريقة تفتح كل الأبواب أمام مافيا الفساد لنهب ثروات الشعب المصري. أحكام القضاء حجة ضد القانون تحت شعار براق يتحمس له الشعب المصري كله وهو شعار «تشجيع الاستثمار» أعدت حكومة محلب قانونها الصادم الذي يحصن العقود الفاسدة التي تبرمها الحكومة والمسئولون بالقطاع العام ضد حق الشعب الطبيعي في اللجوء إلي القضاء لحماية ثروات مصر عندما يري مسئولاً ينزلق إلي بئر ومستنقع الفساد مع بعض المغامرين من رجال الأعمال وتبرر حكومة «محلب» هذا التحصين بأنه ضرورة لتشجيع الاستثمار لأنه يضمن استقرار الأوضاع القانونية للمستثمرين، فهل تري حكومة «محلب» أن استقرار أوضاع قانونية حتي لو كانت «فاسدة» وحتي لو تأكد أنها تمنح المستثمر «حصانة» تمكنه من نهب ثروات مصر وتحدي مشاعر الجماهير. لقد صدرت أحكام القضاء المصري النزيه والعادل لتثبت أن كثيراً من العقود التي أبرمتها حكومات ما قبل ثورة يناير كانت عقوداً فاسدة صاغها «ترزيه القوانين» لتسمح لبعض المغامرين بنهب ثروات الشعب المصري. فهل تري حكومة «محلب» أن القضاء المصري ارتكب خطأ فادحاً بإصدار هذه الأحكام التي قضت بفسخ هذه العقود واستعادة الشعب المصري لبعض ثرواته المنهوبة؟ أحكام القضاء هذه - يا سادة - هي الحجة الدامغة التي تؤكد أن إبرام عقود فاسدة تسمح للمستثمرين بنهب ثروات مصر يتم بإنفاق آثم بين المسئول الحكومي سواء كان وزيراً أو رئيس مؤسسة وبين مستثمر يتآمر مع هذا المسئول الحكومي علي «صفقة فاسدة» يتقاسمان فيها ما يتم نهبه من ثروات مصر، فهل يتصور العباقرة في حكومة المهندس محلب أن أحد طرفي مؤامرة الفساد سوف يطعن علي العقد الفاسد أمام القضاء ليدين نفسه؟ استقرار المستثمرين.. واستقرار الشعب ما وجه العجلة في إصدار هذا القانون؟.. وكيف يكون الحال بعد بضعة شهور لا أكثر عندما يتم انتخاب الرئيس ويتشكل مجلس النواب ثم يتولي أحدهما أو كلاهما إلغاء هذا القانون بعد أن تكون جهات حكومية قد أبرمت عقوداً فاسدة مع بعض المستثمرين؟.. هل تعتمد حكومة «محلب» علي قدرتها خلال بضعة شهور علي إبرام العديد من العقود ثم نتصور أنه في حالة إلغاء هذا القانون فإن الإلغاء لن يطبق بأثر رجعي وبالتالي يفلت الفاسدون من المسئولين والمستثمرين بغنيمتهم؟.. وماذا لو أن إلغاء هذا القانون سمح بسريان الإلغاء علي هذه العقود الفاسدة؟.. كيف سيضمن هذا القانون استقرار الأوضاع القانونية للمستثمرين؟.. فإذا نظرنا إلي آثار هذا القانون علي جماهير الشعب فسوف نري أن حالة من الانزعاج والغضب قد سادت أغلبية الشعب، وإذا علمنا أن حكومات العهود السابقة استطاعت بكل وسائل البطش أن تجعل الجماهير تبتلع غضبها فإن هذه الأنظمة لم تستطع أن تنزع هذا الغضب، بل استطاعت فقط أن ترغم الجماهير علي إخفاء هذا الغضب الذي تراكم في نفوس الجماهير وأحدث حالة من عدم الاستقرار المكتومة، ومع تراكم هذا الإحساس انفجرت ثورة يناير، فهل تضحي حكومة «محلب» بالاستقرار الأهم وهو الاستقرار الاجتماعي لشعب لا يتحقق استقراره إلا إذا اطمأن علي أن ثرواته مصونة، فهل قررت حكومة «محلب» أن تضحي باستقرار الشعب من أجل استقرار أوضاع حضرات المستثمرين، بل وهي تضمن حتي استقرار هذه الأوضاع إذا انفجر الشعب الغاضب غير المستقر؟ معوقات الاستثمار الحقيقية الشعار الخادع الذي يتحدث عنه «جذب الاستثمار» هو كلمة حق يراد بها باطل، فالمستثمر الجاد لم يزل راغباً في الاستثمار في مصر، فالفرص الهائلة والواعدة التي تزخر بها مصر تغري المستثمر الجاد للاستثمار في الكثير من المشروعات، ولا يمنع المستثمرين عن التدفق علي مصر إلا حالة عدم الاستقرار الأمني، وهؤلاء المستثمرون الجادون ينتظرون انتهاء هذه الحالة الأمنية العارضة ليسارعوا بالحضور إلي مصر. وأعترف بأن هناك بعض المعوقات التي لا تشجع المستثمرين الجادين، غير أن هذه المعوقات ليس لها علاقة بالعقود، لكنها تتعلق ببعض قوانين العمل أو الضرائب أو التعقيدات الروتينية الكثيرة، ولو تم تعديل هذه اللوائح والقوانين التي يشكو منها المستثمرون الجادون لتدفق الاستثمار الجاد علي مصر. ويؤكد هذه الحقيقة استمرار الكثير من المستثمرين الجادين المصريين والعرب والأجانب في نشاطهم واتجاه الكثير منهم لزيادة استثماراتهم بعد اكتمال بناء المؤسسات السياسية للدولة واستعادة الاستقرار الأمني. سوء استغلال حق التقاضي لست من رجال القانون، ولهذا فإنني لا أتعرض هنا لنصوص هذا القانون، فرجال القانون هم أهل الاختصاص، لكنني أحاول اكتشاف الآثار المدمرة لهذا القانون علي الشعب المصري. بدعوي حصر «حق الطعن» علي من له صفة أو مصلحة مباشرة ثم استبعاد جماهير الشعب المصري من ساحة الدفاع عن حقوقها الطبيعية في ثروات مصر. وأعترف بأن بعض هواة الشهرة أو بعض المغرضين كانوا ومازالوا يستغلون حق التقاضي استغلالاً سيئاً، ولكن هل انحراف هذا النفر القليل يبيح للحكومة أن تحرم الأغلبية الساحقة من الشعب اللجوء للقضاء دفاعاً عن ثرواتهم؟ ضبط هذا الانفلات أو سوء استخدام الحق يتولاه القضاء، وقد أصدر القضاء المصري العديد من الأحكام الحاسمة في مثل هذه الحالات التي يري القضاء أن من أقام الدعوي ليست له «صفة» تسمح له بإقامة مثل هذه الدعوي. الحل ممكن لقد صدر القانون، وأصبح سحبه أو إلغاؤه أمراً صعباً، لكن تعديله لإغلاق الثغرات التي تسمح بفتح الأبواب علي مصراعيها أمام مسئولين فاسدين ومستثمرين مغامرين وغير جادين لينهبوا ثروات مصر تحت غطاء قانوني، هذا التعديل ممكن، وحتي لا يبقي الحديث مرسلاً أتقدم ببعض المقترحات للتعديل، قرأت بعضها لكتاب محترمين وسمعت بعضها في مداخلات تليفزيونية: أولاً: في منع سوء استخدام حق التقاضي، يتم التعديل لينص علي توقيع عقوبات رادعة سواء بالحبس أو الغرامة الكبيرة علي من يثبت عدم جديته في الطعن، ومن يعجز عن إثبات فساد العقد المطعون عليه، وهذا الرادع كفيل بإنهاء النسبة الأكبر من فوضي دعوي البطلان. ثانياً: لا يسمح لأي مسئول وزيراً كان أو رئيس مؤسسة بالتفاوض وحده مع المستثمرين، ويتم التفاوض مع المستثمرين الراغبين في إبرام عقود تخصيص أراضي أو عند خصخصة شركات أو مؤسسات قطاع عام، يتم التقاضي مع «لجنة» مشكلة من متخصصين ويتم تسجيل جلسات التقاضي في «مضابط» مدعمة بالتسجيلات.. وهذا الأسلوب كفيل بإغلاق الباب أمام الاتفاقات التي تتم بين مسئول فرد وبين المستثمر، وفي هذا أيضاً حماية كاملة لكل من شارك في التفاوض حتي إذا ظهر فساد العقد استطاع من «عارض» وأبدي ملاحظات جوهرية، استطاع أن يبرىء ساحته، وفي نفس الوقت يجب أن ينص علي توقيع عقوبة ما علي من شارك في تمرير بنود فاسدة بسوء نية. ثالثاً: تكتمل الخطوة السابقة برقابة مسبقة علي العقد قبل توقيعه بالنص في التعديل علي أن تكون «موافقة الجهة المخصة بمجلس الدولة» شرطاً أساسياً لسريان العقد. رابعاً: بعيداً عن هذا القانون فإن جذب الاستثمار الجاد أمر ممكن بدراسة جادة لما أشرت إليه في سطور سابقة من لوائح عقيمة تجعل العقبات الروتينية سداً منيعاً يغلق الكثير من الأبواب أمام المستثمر الجاد، فهذه العقبات تفتح في نفس الوقت الباب أمام فاسدي الذمم من الموظفين لاستغلال هذه العقبات الروتينية لمساومة المستثمر للحصول علي الرشاوي التي يرفضها المستثمر الجاد ويقبلها المستثمر الذي لا يتورع أن يقدم الرشاوي وهو يعلم أنه سوف يعوضها من استغلال المواطنين. تبقي نصيحة للمهندس إبراهيم محلب: لا تدع هذا القانون بصيغته الحالية يسحب رصيد الثقة التي منحك الشعب إياها، وهي ثقة غالية لكنها ليست ثقة «علي بياض» ومثل هذا القانون كفيل بأن يسحب هذا الرصيد من الثقة إذا أصرت الوزارة في رد فعل عنيد علي ما أثير من نقد علي موقفها.. وأؤكد للمهندس محلب أن مثل هذه المواقف المساندة لمشاعر الشعب نتيجتها النهائية نتيجة كارثية.