أثارني تقرير صدر منذ أيام عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، جاء تحت عنوان " مصر والتحكيم الدولي... حماية للمستثمر ولا عزاء للمال العام "، ناقش فيه اتفاقيات الاستثمار الثنائية وعلاقتها بالتحكيم الدولي وتأثيرها علي الفساد في مصر، وسرد خلاله معدلات الفساد المستشري في مصر، والآثار السلبية المترتبة عليه سواء من حيث فقدان مصر لمواردها وثرواتها، أو من حيث تأثير الفساد علي ثقة المستثمرين في مناخ الاستثمار في مصر..! ماجاء في التقرير أن مصر تجذب استثمارات غير مفيدة لاحتياجات الاقتصاد المصري، وأن مصر تفقد سنويا حوالي 40 مليار جنيه مصري بسبب الفساد، فالاستثمار الأجنبي في مصر حتي اليوم كان إما شراء لأصول تملكها الدولة وهو ما نتج عنه برنامج الخصخصة الي تسبب في تفكيك الصناعة المصرية وتشريد نسبة كبيرة من العمالة المصرية، أو الاستثمار في قطاع البناء والتشييد والذي سيطر عليه بناء المنتجعات السكنية الفاخرة، وهي بالمناسبة من أهم القطاعات المسئولة عن القضايا المقدمة ضد مصر في محاكم الاستثمار الدولية، حيث تأتي مصر ضمن أكثر أربع دول تُقاضي دوليا من قبل مستثمرين أجانب، فقد تقدم مستثمرون أجانب بأكثر من عشر دعاوي قضائية ضد مصر منذ قيام الثورة في يناير 2011، وذلك أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، ومن المؤكد أن الرقم الأصلي يفوق هذه القضايا المعروفة، لأن العديد من القضايا تظل سرية، طبقا لقواعد المحاكم الدولية المختلفة المتخصصة في الفض في قضايا الاستثمار، . وبالرغم من الضرر الذي تعرضت له مصر طوال السنوات الماضية، سواء كان قبل أو بعد قيام الثورة، إلا أن مصر تظل مستعدة لتكبيل القضاء المصري والسيادة السياسية المصرية في اتخاذ القرار، وذلك بالدخول في اتفاقيات استثمار ثنائية أو اتفاقات حرة للتجارة والاستثمار جديدة، فبموجب الاتفاقيات الثنائية التي وقعت عليها مصر، يتم تحصين المستثمر الأجنبي ومنحه حماية فائقة، كما يتم فرض سلطات التحكيم الدولي علي مصر وهو ما غرّم وسيظل يغرم مصر المليارات، لذا فهناك حاجة ماسة لمراجعة أولويات الاستثمار في مصر، والتي قد تتمركز في جذب الاستثمار في القطاعات كثيفة العمالة، مع دراسة الاستثمار في العقود الماضية وأسباب فشل مصر في جذب الاستثمار المفيد والجاد، وأشار التقرير الذي أعده مجموعة من علماء وخبراء الاقتصاد أنه بعد عقود طويلة من الفساد الذي أهدر المال العام المصري، وأضاع حق المصريين في ثرواتهم، تظل الدولة المصرية غير قادرة علي محاسبة الفاسدين وإعادة الحقوق المنهوبة،وذلك بشكل أساسي بسبب الاتفاقات الاستثمارية التي وقعت عليها مصر مع أكثر من مائة دولة، ومن المحزن كما جاء بالتقرير أن مصر بدلا من أن تراجع موقفها من تلك الاتفاقيات كما تفعل العديد من الدول حاليا، اتجهت لتعديل تشريعاتها للسماح بالتصالح مع الفساد وإلغاء أحكام القضاء المصري الذي كشف الفساد في العديد من عمليات الخصخصة وبيع الأراضي معللة بذلك بالخوف من التقاضي الدولي بل واتجهت الحكومات المصرية المتتالية لتعديل قوانين الاستثمار المحلية خاصة قانون المزايدات والمناقصات وقانون ضمانات وحوافز الاستثمار وذلك لغلق باب التقاضي المحلي ضد الفساد خوفا من التقاضي الدولي مما يهدد بفساد أكثر وتصالح مع جرائم تهدد الاقتصاد المصري ومعيشة المصريين، والمطلوب من حكومة الببلاوي ألا تسير علي نهج الحكومات السابقة وتسترشد بتجارب دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا وحتي أستراليا، وهي الدول التي استخدمت طرقا مختلفة، إما للهروب من فرض سلطة التحكيم الدولي، أو لمراجعة الاتفاقيات الثنائية أو الغائها، بعد أن تبين أن تلك الاتفاقيات لا تساهم في جذب الاستثمار، وأن الهدف منها فقط هو منح المستثمر الأجنبي سلطات غير محدودة، باسم تشجيع الاستثمار، المطلوب من حكومة الببلاوي أن تستجيب لمطالب الشارع المصري وليس للمصالح الخاصة مع المؤسسات الدولية وتغيير السياسات التي قامت الثورة من أجلها.