عندما زار الدوق الفرنسى «داركور» مصر أكثر من مرة، وعاش بين ربوعها، وفتن بجمالها وطيبة أهلها، لم يغفل مع هذا الحب والجمال بعقله الأوروبى أن يقيم الشعب المصرى بصورة موضوعية ترتبط بمدى تقدمه وتنميته، فعاد إلى بلده عام 1893، ليصدر كتابه «سر تأخر المصريين»، وشن خلاله حملة هائلة على أسباب التخلف والتأخر المصرى، وأرجع معظمه إلى النساء، اللاتى قبلن دور الجوارى وقعدن خلف البرقع والمشربية، وهاجم المثقفين لسكوتهم عن هذه الأوضاع المزرية التى تعانى منها المرأة المصرية، إذ كانت المرأة فى البلدان الأوروبية القاسم المشارك للرجل فى العمل والحياة والرقى، رغم أن أوضاعها أيضاً فى أوروبا كانت متخلفة كثيراً عما عليه الآن، فقد كان ينتشر بها بائعات الهوى من القاصرات، ولكن فى العموم، كانت الفرنسية سيدة عصرها، ولها حقوقها واحترامها، مقارنة بنسائنا فى حينه التى كانت تباع أيضاً فى بيوت البغاء المقننة. وكان كتاب (داركور) مبعث تحرك قاسم أمين الملقب ب «محرر المرأة»، حيث تألم للنقد الذى وجه لنساء مصر، وتحميلها وزر التخلف، فكتب كتابه «تحرير المرأة» الذى اعتبره كثيرون طفرة فى تاريخ مصر للمناداة بحقوق المرأة، رغم أن طيات كتابه حملت فقرات انتقصت من حقوق المرأة المفترضة كثيراً، ففيه ورد: «إننى لا أرى الفائدة التي يمكن أن يجنيها النساء بممارسة حرف الرجال، إن مشهد الأم المتفانية يملؤني حناناً، كما يحرك شعوري مشهد الزوجة التي تعنى ببيتها، في حين أني لا أشعر بأية عاطفة حين أرى امرأة تهل على خطى الرجال، ممسكة كتاباً في يدها، وتهز ذراعي في عنف، وهي تصيح بي: كيف حالك يا عزيزي؟.. بل لعلي أشعر بشيء غير بعيد عن النفور»، وقوله «إنني أحتقر ادعاء النساء وتحذلقهن». أى أن قاسم أمين نادى بتحرير المرأة ولكن «إلا حتة»، أو نادى بحقوقها، ولكن حتى باب عتبة «الدار»، فلا تزال المرأة تحارب فى مجتمعها الصغير «الأسرة» والمجتمع الكبير العام، لتثبت وجودها، وتصارع من أجل حقوقها، ومن أجل حماية نفسها وجسدها، فهى منذ نعومة أظفارها معرضة لنظرات الذئاب وللتحرش، ولعمليات الانتهاك البدنى بل الاغتصاب حتى فى محيط الأسرة «المحارم» وهى جرائم بشعة لم نكن نسمع عنها قديماً، ولا تزال المرأة العاملة فى المؤخرة، أجرها أقل من أجر الرجل حتى إن أدت نفس مهام عمله، فرص الترقى فى وظيفتها غير متاحة إلا ما ندر، وكثيرات يجدن أنفسهن مضطرات لتقديم تنازلات أخلاقية وجسدية للحصول على الحق فى الترقى، أو نيل رضا المدير الذى هو غالباً رجل. ولنا أن نحصى فى كل حكوماتنا السابقة والحالية، كم وزيرة بين تعداد الوزراء فى الحكومة البالغ عددهم الآن 31 وزيراً، «أربع وزيرات فقط»، حتى فى مهنتنا الإعلامية والصحفية، علينا أن نحصى عدد النساء اللاتى يتولين رئاسة تحرير، أو مركز مدير عام فى مؤسسة إعلامية، قلة لا تعد على أصابع اليدين، لأننا ما نزال نعيش فى مجتمع ذكورى «مجتمع سى السيد» حتى إن تظاهر الرجل بعكس ذلك، فقد أسعده أن تزيل المرأة برقع الوجه ليتأمل مفاتنها، بينما وضع هو البرقع على عقله، فهو لا يريد منها إلا الجسد لا العقل.. وعلى المرأة أن تواصل الحرب لإثبات أنها عقل قبل أن تكون جسداً.. عقل يتحرك ويفكر، وطاقة تعطى وتنتج وتبدع بصورة قد تفوق الرجل فى مناسبات كثيرة. وكارثة الكوارث فى نظرى، أن غالبية فتيات ونساء مصر، اكتفين بالقشور من مزاعم الحقوق والحريات اللاتى حصلن عليها، كثيرات يعتقدن أن الحرية تتمثل فى حرية «التعرى» أو حرية ارتداء الملابس «المحزقة» التى تبرز أكثر مما تخفى، أو حرية المكياچ الصارخ فى عز النهار وكأن ثورتها لطلب حقوقها تلخصت فى «ثورة أحمر شفايف»، وتعتقد أن هذه هى الحرية، حرية الملبس والخروج مع من تشاء، وممارسة ما تريد، متناسية أنها بهذا تعود إلى عصر الحريم، ولكن فى «نيولوك» جديد، تعود إلى عصر الحرملك. وحتى عندما كان للمرأة حضور بارز فى مظاهرات 25 يناير و30 يونية، يجب أن نعترف بأننا تجاهلنا حتى كإعلاميين ما تعرضت له من تحرش واغتصاب فى الميادين على أيدى البلطجية والعملاء ممن حاولوا تشويه الثورتين، تجاهلناها فى حينه حتى لا نثير الإحباط بين المتظاهرات، ولا نشوه المجتمع، وقد كان يتطوع لحمايتهن الشباب والرجال الشرفاء، الذين وقفوا للدفاع عنهن بكل ما يملكون، لأن المرأة لا تزال فى نظر الكثير ليست إلا جسداً ومتاعاً مباحاً. بجانب صف القوانين التى تكرس مساواة حقوق الرجل بالمرأة فى مصر، التى تنتهك «عينى عينك» وفقاً للأهواء، نحتاج إلى ثورة عقل، ثورة فكر، ثورة ثقافة، لندرك فيها أن المرأة كائن محترم له كيانه وقدراته وطاقاته، وعلى المرأة نفسها أولاً أن تقتنع بقدراتها هذه حتى تعكس قناعاتها على الآخرين، ولا تتعامل خارج منزلها بأنوثتها ومفاتنها، لأنها بذلك تهدر كرامتها وتهدر كرامة كل بنى جنسها، وتنقص من حقها وحقوقهن.