بعد مرور مائة وعشرة أعوام على صدور كتابى قاسم أمين «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» مازلنا فى حاجة إلى كتب أخرى تخوض فى نفس الموضوع، فرغم مرور أكثر من قرن مازالت المرأة تتعثر وتسقط وتقوم ثم تسقط مرة أخرى على طريق الحرية، والمتأمل لظاهر المجتمع العربى اليوم يمكن أن يظن أنها لم تتقدم خطوة واحدة، وأنها لازالت أسيرة الأفكار والأعراف «العثمانلية»! لم يعد الحجاب يهيمن وحده على الشارع المصرى بل أصبح النقاب يزاحمه، ويجد من يدعو إليه ومن يدافع عنه، ومن يتهم كل من لا ترتديه بالانحلال و«التبرج»! مازال الرجل الشرقى لا يرى فى المرأة إلا جسدها، ولا يعترف بعقلها أو مواهبها أو قدراتها العقلية. المرأة فى مصر موجودة فى كل مكان.. ملايين النساء تخرجن فى الجامعات ووفقن فى ممارسة المهن وكافة الأعمال الأخرى، ورغم ذلك فإن النظرة العامة لهن تخلع كل ما اكتسبنه من أردية ثقافية وعلمية ومن نجاح ومكاسب مادية، ولا ترى إلا الجسد وحده.. وتعاملهن على هذا الأساس. ورغم ذلك فقليل من الرجال من يعتبرون قضية المرأة أمراً يستحق الاهتمام، ناهيك عمن يعتبرونها قضية من الأساس، ولكن شريف الشوباشى الكاتب الصحفى ومدير العلاقات الثقافية الدولية السابق بوزارة الثقافة خرق هذه القاعدة، واعتبر قضية المرأة «كاشفا لأخطر عورات المجتمع العربى وبؤرة تتبلور حولها أبرز المشكلات النفسية والعقد المتوارثة التى تكبل الإنسان العربى فى العصر الحديث»، ومن هنا جاءت أهمية كتابه الذى صدر مؤخراً عن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع تحت عنوان «ثورة المرأة». وفى مقدمة كتابه يعترف الشوباشى بشجاعة بأن «المرأة فى عالمنا العربى تضرب وتهان وتستباح باسم الإسلام ويستشهد البعض بآيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية لتبرير وضع المرأة فى مكان دونى وتحليل تبعيتها للرجل وخضوعها التام له».. لا أتذكر كاتباً مصرياً أو عربياً بعد قاسم أمين وصل إلى ما وصل إليه شريف الشوباشى فى كتابه الأخير من تجرد وعقلانية تسانده ثقافة دينية وعامة وحس إنسانى راق ونبيل، فى خضم الأمواج العاتية من المكابرات والتلفيقات والمهاترات التى تسود عالمنا العربى فى العقد الأول من القرن العشرين، يأتى كتاب «ثورة المرأة» للكاتب شريف الشوباشى ليلقى بجرادل من المياه الباردة على أولئك المكابرين، لعل ضمائرهم تهتز وتفيق من غفوتها، ويبرر الشوباشى موقفه بكل وضوح، فقد قرر أن يمسك بتلك الجمرة بكلتا يديه لاقتناعه بأن حقوق المرأة هى جزء من حقوق الإنسان، وإذا انتهكت فإننا نفتح الباب لانتهاك حقوق الرجل وحقوق الطفل وإهدار حقوق الفقراء والأقليات وكل الأطراف الضعيفة فى المجتمع، وضع الشوباشى يده على الداء الذى يستشرى فى المجتمع العربى ويأكل جسده ويشل أعضاءه ويعطل عقله عن التفكير والإبداع. نقطة البداية للعلة التى يتجاهلها الجميع وزعموا أنه لاينبغى المبالغة فى البحث عن دواء لها هى اضطهاد المرأة واستعبادها. وهى نفس العلة التى اكتشفها المفكر الإنجليزى جون ستيوارت ميل منذ ما يقرب من قرن ونصف وأطلق كتابه الشرارة «استعباد المرأة» وكان رفاعة الطهطاوى، فى نفس الوقت، قد اقترب كثيرا من دواء تلك العلة حينما أشار إلى ضرورة تعليم الفتاة ومنحها فرص العمل الشريف لتنفق على نفسها، ولقد حاول الكثيرون تأصيل أسباب الداء الذى يعانيه العالم العربى ويعوق نموه، وهناك إجماع على معاناة مجتمعنا العربى من تدهور سياسى اقتصادى اجتماعى، ولكن أحدا لم يعثر على الأسباب الحقيقية وراء ذلك، أما شريف الشوباشى فيمتلك رؤية واضحة لايعتريها أى شك فى أن الانحطاط الفكرى وراء كل ذلك التدهور وأن معضلة الإنسان العربى تكمن فى عقله وليس فى أى مكان آخر، الإنسان الذى تقوده غرائزه ولايحتكم إلى العقل يصبح أقرب إلى الحيوان. فى كتابه يتجه شريف الشوباشى مباشرة صوب هدفه.. فلا ألغاز ولا غموض.. إنه لا يضيع وقته ليتساءل مثل الكثيرين.. هل البيضة قبل الفرخة أم الفرخة قبل البيضة؟! لاتهمه مسائل هلامية مثل الفوارق بين مخ الذكر ومخ الأنثى التى أهدر علماء كثيرون وقتهم فى البحث عنها وتحديدها، فهو يعترف بوجود فوارق إلا أنه يرى أنها لا تؤدى إلى تناقض بين الجنسين ولاتبرر سيطرة أحدهما على الآخر، بل هى عناصر تكميلية أكثر منها عناصر تناقضية ومن شأنها أن تجعل كلا العنصرين فى حاجة إلى الآخر. ويطرح الشوباشى مثالا ليدحض به كل تلك الأفكار التى تتمسح بالعلم، فمنذ عام 1901 فازت 39 امرأة فقط بجوائز نوبل من مجموع 802 شخص! إحداهن فازت بالجائزة مرتين عام 1903 و1911 هى عالمة الفيزياء مارى كورى. وإذا كان العالم يجمع على أن تلك الجائزة معيار للتفوق الذهنى والذكاء والقدرة على الابتكار، فهل المرأة تفتقد كل تلك الصفات؟ هل تلك النسبة الضئيلة من الفائزات فى شتى المجالات (8,4%) تشير إلى تدنى عقلية المرأة وتدلل على أنها مخلوق أدنى من الرجل ولا يمكن أن يتساوى معه. يجيب الشوباشى: لو أننا سلمنا بذلك فلسوف يقودنا نفس المنطق إلى الاعتقاد بتدنى عقلية الرجال فى العالم الثالث الذى يمثل 85% من سكان العالم، فمن بين 186 فائزاً بالجائزة فى الفيزياء، فاز اثنان فقط من العالم الثالث أحدهما هندى والآخر باكستانى مسلم والنسبة هنا 1% فقط لا غير.. فهل عقل الإنسان فى العالم الثالث (ومن بينه العرب وكل المسلمين) أقل قدرة على الإبداع والابتكار وأقل ذكاء من عقل الإنسان الغربى؟ تلك المعادلة جاءت فى حديث الكاتب الصحفى شريف الشوباشى فى دفاعه الحار عن عقل المرأة، وهو يعزو التخلف الذهنى (للمرأة أو الرجل) لأسباب أخرى هى الظروف والإمكانيات وأساليب التربية وليس إلى تفوق عرق أو جنس على آخر. ويتطرق بشجاعة إلى موضوع الجنس فى المجتمع العربى، وأنه يقع فى الذهنية العربية على رأس قائمة العيب والمحظورات وهكذا أصبح من أكبر مسببات النفاق المتفشى بين الرجال العرب، الذين يجاهرون برفضهم واشمئزازهم من كليبات العرى والأفلام الإباحية والجنسية ويشترونها فى الخفاء، والدليل على ذلك أن نسبة المبيعات تزداد بسرعة هائلة، ذلك أن كل ممنوع مرغوب. ويقول: «ولو قارنا بين جيل النصف الثانى من القرن العشرين فى مصر وبين جيل بداية القرن الحادى والعشرين تتضح لنا المساحة الضخمة التى أصبح يحتلها الجنس والزواج العرفى والعلاقات غير المشروعة والتحرش الجنسى والاغتصاب فى حين أن المناخ العام فى أيامنا هذه هو مناخ دينى يحض على الأخلاق والفضيلة»، لقد صار المجتمع العربى مجتمع رجال ينظر إلى المرأة من منظور الجسد والجنس أولا، ويضرب الكاتب بعنف على ثقافة الصمت التى يفرضها المجتمع العربى على قضايا المرأة مستشهدا باستطلاع الرأى الذى نشره المركز القومى لحقوق المرأة، وجاء فيه أن 83% من النساء المصريات تعرضن للتحرش، وترتفع النسبة بين النساء الأجنبيات «زائرات مصر» لتصل إلى 98%!! ويشير إلى أن المجرم الحقيقى فى قضايا الشرف هو الرجل الذى غرر بالفتاة البكر وأوقعها فى شباكه بأساليب دنيئة، ورغم ذلك فهو يفلت من العقاب، بل إنه يبدو أمام أصدقائه وكأنه راجل و«دكر» لا تستطيع أن تقاومه الفتيات على الرغم من اعترافه بأنه غير متفائل، فهو يرى حتمية انتهاء تلك الوضعية الظالمة للمرأة، فهو يرى أن هناك علاقة عكسية متوازية بين العضلات ووضع المرأة فى المجتمع، وأن العلم بتطوره واكتشافاته قلل من اعتماد البشر على عضلاتهم، واعتمد على العقل والمهارات الذهنية وهنا تأتى فرصة المرأة للمشاركة الفعالة فى تدوير عجلة الحياة وأن ترتفع قيمتها حتى تصبح مساوية تماما للرجل، فالعلم وما استتبعه من تطور تكنولوجى وثورة فى الاتصالات والمعلومات نصير المرأة، والمساواة فى رأى الشوباشى ليست فى الحقوق وإنما أمام القانون وهو يرى أن هناك فرقاً كبيراً بين الاثنين، فالطبيعة ذاتها لم تساو بين البشر، هناك الأجمل والأكثر ذكاء والأقوى.. إلخ ولكن القانون يجب أن يساوى بين الجميع، ومادام القانون لا يطبق على الجميع وكانت القوة العضلية هى المسيطرة على أى مجتمع فلا أمل للمرأة فى أى مساواة أو عدالة، وهذا ما يحدث للأسف فى مجتمعاتنا العربية التى مازالت حكمة قاسم أمين تنطبق عليها إلى اليوم «فى الشرق نجد المرأة فى رق الرجل والرجل فى رق الحكومة.. وحيثما تتمتع النساء بحريتهن الشخصية يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطا كليا»، فكأنه يحذر الرجال بأنهم لن ينالوا حقوقهم كاملة إلا إذا اعترفوا بحقوق المرأة بلا نقصان! ولكل من يعادى المرأة ويصر على اعتقالها داخل قمقم الخضوع للرجل يوجه الشوباشى تحذيرا حارا، إذا كان ضعف المرأة يكمن فى الحمل والرضاع فلسوف يأتى الزمن القادم باختراع رحم بديل يمكن أن يعفيها من تلك الأعباء فى المستقبل القريب، وأنه لا مفر من الاعتراف بأن المستقبل للنساء كما قال الفيلسوف الهندى طاغور: «إذا أصبح اللاعنف هو القانون الذى تسير عليه الإنسانية فإن المستقبل سيكون بين أيدى النساء».