جميل جدا أن يخطط مجلس الوزراء لإعادة النظر في فلسفة التجريم في الجرائم الجنسية، بعد أن أكدت البحوث الميدانية تعرض 7.20% من النساء لجرائم خدش حياء وهتك عرض واغتصاب طبقا للزميل «هيثم سعدالدين» في جريدة الأهرام، وإن كنت أظن أن التحرش الجنسي بأشكاله المختلفة هو أوسع اتنشارا من هذا المعدل المتواضع الذي ربما يكون نتيجة لشجاعة بعض النساء اللاتي يجري ضدهن التحرش في مقابل إحجام نسبة أكبر كثيرا من النساء عن الاعتراف بوقوع التحرش ضدهن إتقاء للفضيحة وحفاظا علي السمعة وخضوعا لثقافة الكتمان الشائعة خاصة فيما يتعلق بمسائل الجنس سواء تحرشا أو عجزا أو زني محارم.. إلخ. ومما يعزز الشك في صحة هذه النسبة التي ساقها لنا الزميل «هيثم» أن استقصاء جري علي الصعيد العالمي حول التحرش الجنسي جاءت مصر فيه في المرتبة الثانية من حيث انتشار هذه الظاهرة وهو ما يعني في الحالتين أن انتهاك أجساد النساء أصبح عملا عاديا، بل وقيل منظما وممنهجا لإبعاد النساء عن المجال العام وإعادتهن إلي بيوتهن لأن الحكام الجدد في بلادنا سوف يضمنون بذلك صمت وخوف نصف المجتمع. فإذا عرفنا أن تزايد هذه الأعمال الشائنة قد بدأ في مارس 2011 أي بعد الثورة بشهرين حين قررت نساء من المناضلات دفاعا عن حقوق المرأة الاحتفال بيوم المرأة العالمي في الثامن من مارس في ميدان التحرير، ميدان الثورة الذي شهد تدفقهن بعشرات الآلاف إليه من أيام الثورة حيث شاركن ببسالة في كل أعمالها فتظاهرن وبتن في الشوارع وجُرحن واستشهدن وهو ما أفزع كل القوي الرجعية من رجال ونساء الإسلام السياسي، وكان الإسلام السياسي الذي تلاعب بمصير الثورة قد بيت النية علي الاستيلاء علي الحكم وحين تم له ذلك أعلن عن انتصار الثورة وانتهائها. وبالتالي كان عليه أن يبدأ بإقصاء النساء وتخويفهن وتهميشهن حتي تفقد الثورة نصف زخمها ووقودها، إضافة إلي استهداف الشباب المناضل بالقنص والضرب في العيون والتعذيب في السجون الذي نالت منه النساء نصيبهن في شكل كشوف العذرية والسحل في الشوارع ثم تنظيم عمليات التحرش الثقيل. وإذا تأملنا في دوافع التحرش سوف تتكشف لنا منظومة الأفكار المحركة له حول جسد المرأة الذي يجري انتهاكه وهي منظومة قديمة قدم الأساطير والديانات التي استلهمها بعض الفلاسفة في العصور القديمة ليعمدوا جسد المرأة بالنجاسة ويرفضوا الاعتراف بها كإنسان، ولذا وضعوها غالبا في مرتبة دنيا، ففي جمهورية «أفلاطون» شغلت النساء نفس المواقع الدنيا للعبيد، ورغم أن الإسلام هو الدين الذي لم يحمل المرأة «حواء» مسئولية إغراء آدم بأكل التفاحة المحرمة ثم خروجهما معا من الجنة، لكن الفكر الديني الإسلامي التقليدي تفنن في وضع القيود علي المرأة والتقليل من شأنها سواء بالتأويل الحرفي لبعض آيات القرآن الكريم، أو الاستشهاد بأحاديث منسوبة إلي الرسول. وعرفت الآداب العالمية حكايات الموت بالمرأة اعتمادا علي مقارنتها بالطبيعة حيث لدغة حشرة الأنثي مميتة علي عكس لدغة الذكر التي تجرح دون أن تقتل. وفي مصر تفاعلت القوتان الرئيسيتان في الحياة السياسية المصرية خلال الأربعين عاما الماضية، وهما قوة الليبرالية الجديدة أو الرأسمالية المتوحشة بتوجهاتها الاستهلاكية التجارية التي حولت المرأة إلي سلعة، وقوة الإسلام السياسي التي تنافس دعاتها في إنتاج صورة المرأة العورة التي يثير جسدها الفتنة، وبينما تعمل الأولي علي تعرية النساء واستخدام أجسادهن في ترويج البضائع والأغنيات الهابطة، تعمل الثانية علي إخفاء أجساد النساء خلف الحجاب أو النقاب أو داخل المنزل لإبعادها كلية عن المجال العام، وفي الحالتين يجري عقاب النساء تارة باسم حماية المجتمع من الفتنة وتارة أخري باسم حماية المرأة نفسها. وللرؤيتين منبع فلسفي واحد ينزع عن المرأة إنسانيتها ويهمشها كإنسان ناقص. ونجد في ميدان الوعي السائد أن التوجهات السلطوية الأبوية الطبقية تقبض علي المجتمع بشروط ذكورية هي إضافة للتاريخ الضارب في القدم من الخوف من المرأة الذي ينتج العداء لها.. هي ذاتها أيضا ناتج تفاعل العاملين المشار إليهما الليبرالية الجديدة والإسلام السياسي. وهنا تبرز ثلاث أفكار أساسية حول جسد المرأة يتخذ منها المجتمع تكأة لوضع المرأة في مرتبة دنيا، وتأكيد أن النوع ليس صناعة اجتماعية، وقبل ستين عاما قالت «سيمون دي بوفوار» في كتابها التأسيسي «الجنس الثاني» إن الإنسان لا يولد امرأة إنما يصبح امرأة، ولكن ما شاع علي الصعيد العالمي بدرجات متفاوتة هو اعتبار أن الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة تنتج فروقا نوعية طبيعية وخالدة تجعل المرأة كائنا أدني أو إنسانا ناقصا يستحق المكانة التي يضعه المجتمع فيها بحكم التكوين الطبيعي لهذا الكائن. الفكرة الأولي هي الجسد العورة مجال الشهوة ومصدر الإغراء والفتنة والمحرض علي الخطيئة، باب الشيطان وعنوان الدنس. والفكرة الثانية هي الجسد المقدس رمز الخير وعلامة العطاء والخصوبة والأمومة الذي لابد من فرض الوصاية عليه لحماية طهره وعفافه كما تدعو جماعة الإخوان. أما الفكرة الثالثة فهي من نتاج السياسات التجارية الاستهلاكية أي المرأة السلعة وهي الفكرة التي تفتح الباب واسعا أمام شبكات الدعارة التي تتاجر بأجساد النساء. ومن هذه التصورات المعقدة متعددة المستويات تنشأ كل أشكال العنف ضد النساء وعلي رأسها التحرش والإرهاب الجنسي والاغتصاب وهو ما يحتاج إلي نضال سياسي – ثقافي طويل المدي يشرح الأسباب دون أن يكتفي بمعالجة النتائج كما تفعل حكومة الدكتور «هشام قنديل» ومع ذلك نتمني لها أن تنجح في مسعاها بعد أن فشلت في كل المساعي الأخري.