عجيب أمر المصريين، أدمنوا الجدل و«السوفسطائية»، ما إن يتجاوزوا مطباً حتي يصنعوا لأنفسهم وبأيديهم مطباً جديداً، صاروا متعجلين، متسرعين، يتحدثون أكثر مما يفعلون، يثرثرون أكثر مما ينتجون، يتفننون في إدخال «الفهلوة» إلي قاموس العمل السياسي، وأصبحوا جميعاً- فجأة وبقدرة قادر- سياسيين أباً عن جد وجد الجد(!). ما كادت لجنة الخمسين تنتهي من تقديم نسخة الدستور إلي الرئيس المؤقت عدلي منصور، حتي انطلق المصريون يحددون موعد الاستفتاء، وكأنهم الرئيس المنوط به وحده تحديد هذا الموعد الذي كانوا عليه يختلفون ويتجادلون. والآن يمارسون لعبة اسمها «رئاسية ولا برلمانية» بل صنعوا لهذه اللعبة أخري احتياطية أطلقوا عليها «اثنين في واحد» يعني رئاسية وبرلمانية في وقت واحد، وتناسوا أيضاً هذه المرة أن الرئيس وحده من بيده تحديد بأي انتخابات سنواصل السير بخارطة طريق المستقبل، بشرط الانتهاء من الاستفتاء والموافقة علي الدستور أولاً، وهو ما أقرته بشكل واضح وصريح المادة (230) من الدستور. الكارثة هنا أن السياسيين والمثقفين وأقطاب القوي الوطنية هم من يصنعون هذا الجدل، ويتبارون في تأجيجه، فيتسببون في تشتيت الناس والعامة، ويلحقون ضرراً بالغاً بعملية الحشد للدستور والتصويت عليه ب«نعم»، فالجو العام محتقن وملتهب، والحال لا تستدعي كل هذا الجدل الاستباقي الذي يصب في مصلحة الإخوان وأنصارهم. المشهد السياسي المصري، لم تعد له معالم محددة وواضحة، وهو بتداخلاته وتقاطعاته ووجوهه المختلفة المصالح والهوي، يشبه لوحة «الفسيفساء» وهو ما يريده التنظيم الدولي للإخوان حتي يمكن تعطيل وعرقلة خارطة الطريق، فالجماعة وحدها المستفيد الأول من هذا الانقسام وذلك الخلاف بين القوي السياسية والثورية المصرية.. وإن استطعت أن تنتزع من إخواني كلمة حق يقولها لأول مرة في حياته سيخبرك بأنه لا يريد أي انتخابات الآن ولا يريد لمصر أن تقوم ثانية أو تسترد الدولة هيبتها وقوتها، لأنه أصلاً لا يهمه البلد، ولا يدرك معني وقيمة الانتماء لوطن سوي وطن الجماعة الأممي. المطالبون بالانتخابات البرلمانية أولاً وهم من بعض الحركات الثورية وتيار الاسلام السياسي «حزب النور وغيره» يتمسكون بالاعلان الدستوري الصادر في يوليو الماضي وبنود خارطة الطريق التي حددت الانتخابات البرلمانية أولاً، يخشون أن تتعرض المرحلة الانتقالية إلي هزة دستورية تعيدها إلي المربع الأول. أما الذين يطالبون بإجراء العمليتين معاً في خبطة واحدة توفيراً للمال والوقت والجهد فهم من وجهة نظري متفائلون أكثر من اللازم، فالشعب المصري المسكون غالبيته بالفقر والجهل وعدم النضج السياسي، سيكون من الصعب عليه اختيار رئيس جمهورية وعشرات النواب في وقت واحد، فهنا لا يجدي ولا يثمر أبداً شعار «خلصونا البلد مش ناقصة مشاكل وخسائر». صحيح أن الشعب مطحون وكره كلمة سياسة، ولكن مصر الآن بحاجة إلي رئيس منتخب وليس مؤقتاً، يمارس كل صلاحياته بقوة وشجاعة، ولا يعني ذلك أي انتقاص من الرئيس المحترم عدلي منصور، ولكن الرجل يدرك دوره جيداً، ولذا فهو يتعفف من التدخل إلا فيما ندر، فطبيعة المرحلة الانتقالية تفرض عليه كل هذا الحذر.. ففي ظل هذا الانهيار الاقتصادي والتخبط السياسي والانفلات الأمني أصبحنا بحاجة إلي الرئيس أولاً، حتي تتمكن الدولة من الحفاظ علي مؤسساتها المتآكلة، وتسترد قوتها وهيبتها ولا حجة هنا لمن يخشي أن يأتي الرئيس من فصيل بعينه فيؤثر بشكل أو بآخر علي توجه البرلمان وقراراته، لأن الرئيس القادم بعد إقرار الدستور الجديد له صلاحيات محددة، وإن جمع في هذه الحالة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. هذا الوضع الاستثنائي لن يدوم كثيراً فمجرد اجراء الانتخابات البرلمانية لاحقاً وسريعاً ستكتمل كل بنود خارطة الطريق، وسيكون لبرلمان مصر كلمته في أي تشريع إما بالتعديل أو الالغاء، وستمر أرض الكنانة من عنق الزجاجة سالمة، وستعود السيادة مجدداً للشعب بعد أن سرقها الإخوان عنوة وفي غفلة من النخبة المتصارعة.