بدأت وقائع هذه المأساة بعد نحو عشرين يوماً فقط من قيام ثورة 23 يوليو، ففي العاشرة من مساء يوم الثاني عشر من أغسطس عام 1952، أضرب عن العمل عمال مصانع «شركة مصر للغزل والنسيج» بكفر الدوار، وبدأ الإضراب بانضمام ورديتين من عمال الشركة إلي بعضهما وتجمعهما في فناء المصنع وجنباته، وهم يهتفون ضد إدارة الشركة، وكشف الإضراب عن مطالب العمال التي تحددت في المطالبة بعزل سكرتير المصنع والمسئول عن مكتب العمل، ونقل مقر النقابة خارج مباني المصانع التابعة للشركة، وزيادة الأجور، وصرف منحة سنوية لهم أسوة بالمنحة التي تم صرفها للموظفين، وتبدو قائمة المطالب التي رفعها عمال الشركة منطقية وعادلة، إذ ليس من المنطقي علي سبيل المثال أن النقابة التي تدافع عن حقوق عمال الشركة الذين يبلغ عددهم أربعين ألف عامل، تقع في دائرة المصانع، حيث يصعب إبعاد سلطة الإدارة عن بسط نفوذها علي العمل الذي تقوم به، وممارسة الضغوط علي دورها في الدفاع عن مصالح وحقوق العمال في مواجهة سلطة الإدارة. قبل أيام من إضراب عمال شركة مصر للغزل والنسيج، كان عمال شركة «صباغي البيضا» المجاورة لشركتهم، قد لوحوا بالاضراب عن العمل، وقبل أن يبدأوه بادرت إدارة الشركة بالتفاوض معهم، واستجابت لمطالبهم، ولعل ذلك كان واحدا من الأسباب الهامة التي دفعت عمال شركة مصر للإقدام علي إضرابهم، ظنا منهم أن النتيجة سوف تكون مشابهة لما جري لزملائهم في الشركة المجاورة، أي أن الإدارة سوف تسارع بالتفاوض معهم وتلبية مطالبهم. لكن الأمور تطورت عكس تلك الظنون. استدعت إدارة الشركة حملة من قسم شرطة كفر الدوار يقودها مأمور القسم وحاصرت مباني المصنع المتعددة، وأطلقت وابلا من النيران لإخافة العمال، وإرهابهم، وتطورت الأمور إلي ما كان متوقعاً، إذ برزت من بين العمال عناصر مجهولة لتحول مسار الإضراب السلمي إلي أعمال عنف وتخريب، بتحطيم مكاتب مسئولي الإدارة ومكاتب الأمن، وإشعال النيران في سيارات تابعة للشركة، والاعتداء علي الفيلات التي يسكنها كبار موظفيها، وهو تطور يلحق في العادة معظم التجمعات الاحتجاجية الضخمة، حيث يظهر ما بات يعرف «بالطرف الثالث» الذي يسعي إلي استخدام الاضراب بتحويل مساره إلي أهداف خاصة بهذا الطرف، لا علاقة لها بالأسباب المشروعة لحدوثه. وفي اليوم التالي للاعتصام، قام عمال المصنع ممن كانوا لا يزالون خارجه، بمظاهرة ضخمة جابت شوارع «كفر الدوار» للمطالبة بإنهاء الحصار المفروض علي زملائهم داخل المصنع، والإفراج عمن تم اعتقاله منهم، والمفارقة اللافتة للنظر أن المظاهرة كانت تهتف بحياة قائد الثورة اللواء «محمد نجيب»! وأمام أبواب مصنع «شركة الغزل والنسيج» حاول قائد المظاهرة، منع جندي من إطلاق النار علي المتظاهرين، فألقي القبض عليه، وتبين فيما بعد أن اسمه «مصطفي خميس» وعمره 18 عاماً، كما انتهي الاعتصام بعد اعتقال أكثر من خمسمائة عامل من زملائه، ومقتل أربعة عمال، وجنديين من الجيش، وآخر من الشرطة، بعد احتلال قوات الجيش لكفر الدوار، وانتشار الدبابات والعربات المصفحة في أنحاء المدينة، وإحكام حصارها لمصانع الشركة. وبسرعة فاقت الخيال، شكل مجلس قيادة الثورة، مجلسا عسكريا لمحاكمة العمال الذين اتهموا بالتحريض والمشاركة في الأحداث، ليفتتح بذلك صفحة محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وبسرعة مماثلة، أنهت المحكمة التي عقدت في ساحة عامة في كفر الدوار، وبحضور حشود من عمال الشركة، أعمالها، بعد محاكمة 29 من عمالها في يومين اثنين كان بينهم «مصطفي خميس» و«محمد حسن البقري» الذي وجهت إليه تهمة إحراق سيارات الشركة، حيث حكم علي عدد من العمال بالأشغال الشاقة المؤبدة، واختصت المحكمة «خميس» و«البقري» بحكم الإعدام الذي تم تنفيذه في الثامن من سبتمبر عام 1952! وقائع هذه المأساة عكف علي تسجيلها وتحقيقها بعمل مضنٍ علي امتداد عامين وكما هي عادته دائماً، المخرج الفنان «محمد كامل القليوبي» في فيلمه التسجيلي الجديد «أنا.. اسمي مصطفي خميس» الذي انطوي علي شهادات عدد من الكتاب والمؤرخين والعمال والمناضلين اليساريين والفنانين التشكيليين والسينمائيين، والشقيق الأكبر لمصطفي خميس ليقدم بذلك إضافة جديدة إلي جهده المميز والملحوظ في مجال النهوض بالسينما التسجيلية، وتعزيز دورها في الحفاظ علي تاريخ الوطن وذاكرته، فعل «القليوبي» ذلك مخرجاً ومؤلفاً وكاتباً وناقداً ورئيساً للمركز القومي للسينما، ومعلما في المعهد العالي للسينما ومسئولا عن جمعية «نون» للثقافة والفنون التي ترعي مهرجان السينما الأوروبية السنوي، وقبل هذا وبعده، مناضلاً سياسياً في إطار الحركة الطلابية لجيل السبعينيات التي كان القليوبي واحداً من أبرز نجومها اللامعين إبان دراسته في كلية الهندسة، الذي قادته فيما بعد لدراسة السينما، ونيل شهادة الدكتوراه في فنونها، ربما لإدراكه للدور الذي تلعبه في تشكيل وعي الناس، وقدرتها علي التأثير في تغيير أحوالهم، وتكشف أفلامه الروائية القليلة التي تعد صفحة ناصعة التألق والتفرد في تاريخ السينما المصرية منذ فيلمه «ثلاثة علي الطريق» مروراً بأفلام «البحر بيضحك ليه» و«أحلام مسروقة» و«اتفرج يا سلام» وانتهاء بفيلم «خريف آدم» فضلا عن أفلامه التسجيلية التي قرر التفرغ لها، ومنحها كل جهده، وهو ما أسفر عن عدد من الأفلام، التي تشكل علامات مميزة، كان علي رأسها، فيلمه الرائد «محمد بيومي.. وقائع الزمن الضائع»، حيث أعاد للوسط السينمائي اكتشاف هذا الرائد من رواد السينما المصرية، بعد أن عثر علي أفلامه القديمة، وقام بترميمها وأرشفتها ليدون به لتاريخ السينما المصرية اسبقيتها. فيلم «اسمي مصطفي خميس» يواصل هذا الدور الذي بدأه القليوبي قبل سنوات، وعلي امتداد نحو ساعتين، يجيب الفيلم عن كثير من الأسئلة عن علاقة الثورة بالعمال، لكنه يترك لدي مشاهديه سؤالا مهما دون إجابة، وهو: هل كان توقيت إضراب عمال كفر الدوار عملاً سياسياً صائباً في مواجهة سلطة ثورية جديدة تبدأ أولي خطواتها، بعد إسقاط نظام مستبد فاسد؟!