اختطاف مصطفي خميس وإطلاق الرصاص الحي علي العمال ضابط يعلن حكم الإعدام من فوق ظهر دبابة!! ما أن جاءت ثورة يوليو حتي أضرب عمال شركة صباغي البيضا بكفر الدوار، وحضر محمود باشا شكري، وبدأ مفاوضات مضنية معهم، لكن أهم ما تمسك إنه قال للعمال وبعنف: الألقاب ألغيت في القاهرة لكنها لم تلغ هنا ولهذا كان من الضروري أن تقدم طلباتكم باسم حضرة صاحب العزة المدير. «عيد صالح مبروك في تسجيل علي شرائط كاسيت» يروي عيد صالح مبروك شهادته الأخطر عن إضراب كفر الدوار وإعدام خميس والبقري.. فقد كان شاهد عيان حضر الأحداث من بدايتها إلي نهايتها، ونبدأ الشهادة: «نجح إضراب عمال صباغي البيضا وحققوا قسما كبيرا من مطالبهم «نقابة مستقلة – زيادة الأجور – مكافأة سنوية – علاوة سنوية – إجازة سنوية»، وتساءل جيرانهم في شركة الغزل الرفيع بكفر الدوار.. وماذا عنا نحن؟ وبدأت القيادات السرية الموجودة منذ زمن في التحرك بشكل شبه علني وعقدت عدة اجتماعات علي المقاهي، وأيضا في النادي الرياضي وتشكلت قيادة للعمال من محمد متولي الشعراوي – أحمد الياباني – حلمي الجوهري – محمود عطا الله وأنا، واتفقنا علي الإضراب ورتبنا الأمر بحيث تبقي وردية مكانها وتدخل إلي المصنع الوردية التالية فيكون داخل المصنع ورديتان، لكن بعض جواسيس الإدارة نقلوا المعلومات للإدارة فاستعدت بأن نقلت أوراقها المهمة بعيدا عن الشركة، ودبرت كمينا للعمال فما أن بدأ المضربون في إعلان إضرابهم حتي قام بعض الخفراء من عملاء الإدارة بإشعال حرائق في مكاتب من الشركة، لكن العمال تجمعوا لحماية العنابر وحاولوا إطفاء الحريق المشتعل في المكاتب، لكن رجال أمن الشركة أطلقوا عليهم النار، ولم تتحرك سيارات مطافئ الشركة وازدادت النار اشتعالا وبسرعة تشكلت لجان عمالية لحماية الآلات. حصار وحشي وبالفعل ظلت الآلات وعنابر الإنتاج سليمة، وفي الصباح أتي الجيش، وحاصرت المدرعات المصنع وسدت البوابات ورسموا بالجير خطوطا علي الأرض وحذروا أن من يتخطي هذه الخطوط سيطلق عليه الرصاص، ثم أطلقت شائعة أن محمد نجيب سيحضر ليستمع إلي العمال، فتحركت مظاهرة من العمال المحاصرين داخل المصنع كي يستقبلوا محمد نجيب ويعرضوا عليه مطالبهم، وتناوب علي الهتاف مصطفي خميس وأنا، كانت هتافاتنا عادية، نرحب بنجيب ونطالب الثورة بحماية العمال، وصلت المظاهرة قرب الخط الأبيض، فتردد المتظاهرون، كان الدور علي مصطفي خميس كي يقود الهتاف الذي أعطي ظهره للجنود وبدأ يدعو العمال لتجاوز الخط الأبيض. خطف ورصاص ومع أول خطوة منه تجتاز الخط الأبيض اختطفه الجنود وبدأوا في ضربه ضربا مبرحا وقبض عليه، وبدأ إطلاق الرصاص علي العمال في المليان، ففزع العمال من المفاجأة وتفرقوا في شوارع المصنع لكن السيارات المدرعة وسيارات الجيب أخذت تطاردهم لتقتل العديد منهم، وأستطيع أن أقرر أن أكثر من خمسمائة عامل قد قتلوا في هذه المذبحة، وصدرت الأوامر بعد ذلك بإعدام وثائق مستشفي كفر الدوار العام حتي لا يستطيع أحد التعرف علي عدد القتلي أو أسمائهم، وفي الدعايات الصحفية بررت قيادات الثورة إطلاق الرصاص الحي بكثافة علي العمال بأن رصاصا أطلق من المتظاهرين وقتل جنديين لكنني أؤكد أن التحقيق أثبت أن الرصاص الذي قتل الجنديين أتي من خارج المصنع ومن مساكن الخفراء من عملاء الشركة. والمهم أن قرارا صدر – بحظر التجول ثلاثة أيام ومنع الدخول من أبواب الشركة، كان العمال قد قفز أغلبهم عبر السور هاربين من الرصاص، ولكن بقي عدة مئات من العمال الأكثر وعيا كانوا يحمون آلات المصنع فجمعوهم وأمروهم أن ينبطحوا أرضا علي بطونهم لمدة 48 ساعة وأعلن الضابط للجنود كل من يرفع رأسه أطلقوا عليه الرصاص. إرهاب علني «كانت المحاكمة مهرجانا لإرهاب عمال مصر جميعا جمعوا آلافا من عمال الإسكندريةوكفر الدوار رغم أنوفهم ليحضروا المحاكمة ثم أمروهم وهم جلوس علي الأرض علي الاستماع إلي الحكم الذي تلاه ضابط من فوق ظهر دبابة في دلالة لا تخفي علي أحد، والحكم: خميس والبقري إعدام وثمانية وعشرون عاملا بالسجن، ويحكي عيد أثر الإعدام علي العمال وكيف أنهم كانوا يتهامسون بأن إقطاعيا هاجم قسم شرطة في الصعيد وأطلق الرصاص وقتل سيدة وحوكم في الوقت ذاته بالسجن، ثم ما لبث أن أفرج عنه، والمثير للدهشة أن العمال لم يتراجعوا رغم هذه الوحشية فقدموا مذكرة بطلباتهم فحصلوا علي مكافأة شهرين كل سنة وعلي زيادة العلاوة السنوية وعلي حقهم في إقامة نقابة مستقلة، ومنذ الانتخابات الأولي للنقابة سيطرنا علي مجلس الإدارة ونظمنا بعدها 44 إضرابا وزادت الأجور بنسبة 150% وفي أحد الإضرابات حضر حسين الشافعي وطلب رئيس النقابة وكان محمود عطا الله «عضو حدتو» وسأله الشافعي أنتم كام عامل؟ فرد 000.12 عامل فقال الشافعي سأجعل منكم 000.12 خميس والبقري ورد عطا الله بعفوية «ماشي» وتركه ومضي، وفي 1954 وكانت أزمة الحكم تلتهب استدعي الطحاوي وطعيمة القائد العمالي متولي الشعراوي وطلبا منه تنظيم إضراب لمساندة عبدالناصر فقال لهما سأعرض الأمر علي مجلس النقابة واتخذ مجلس النقابة قرارا غريبا هو إبلاغ النيابة ضد طعيمة والطحاوي لأنهما يحرضان علي الإضراب، والإضراب ممنوع قانونا. هذه هي شهادة الراحل عيد صالح مبروك كما رواها مسجلة للدكتور رفعت السعيد وجاءت ضمن الجزء الثاني من كتاب «مناضلون يساريون» كان عيد قد انضم إلي حدتو وكرس جهده في بناء منظمة حزبية في المصنع فضم عددا من العمال ومنهم اثنان أصبحا قادة النقابة محمد عطا الله وأحمد الياباني، وأسهم عيد في تأسيس اتحاد عمال الغزل والنسيج وأصبح الياباني وكيلا للاتحاد، وإذ يأتي العدوان الثلاثي يرفع عمال كفر الدوار شعار «نصف العمال للمعركة والنصف للإنتاج» وسافر عديد من العمال إلي الجبهة وزاد الإنتاج بنسبة 100% وفي يناير 1959 يقبض عليه وفورا يصدر قرار بفصله من العمل بحجة أنه شيوعي، ويعاني عيد من التعذيب الوحشي ويروي في التسجيلات قصصا تشبه الخرافات عن وحشية التعذيب، أحد الجنود يظل يضربه بعنف ثم صاح «الله يخرب بيتك حاموت من كتر ضربي فيك»، والمجلس العسكري العالي يحكم عليه بثماني سنوات أشغال شاقة، ويفرج عنه ليواجه بعدها بقليل بقرار حل الحزب الذي أفني حياته في بنائه، لكنه تلاقي مع عدد من الرفاق القدامي في محاولة لإعادة تأسيس الحزب، ثم يكتشف أن رفاقا أعادوا التأسيس فانضم إليهم وواصل نضاله معهم حتي أصبح عضوا في المكتب السياسي، ويبقي مناضلا بثبات هادئ ومتواضع ومتفان حتي يرحل.