مناضلون يساريون عيد صالح مبروك «1» عندما بدأت عملي في شركة كفر الدوار اكتشفت أشد أنواع الإذلال فكل أسبوع ويوم الخميس تحديدا يعين 500 عامل جديد ويفصل 500 والهدف هو أن يعيش العمال في رعب من الفصل علي الدوام، وأمام بوابة المصنع كان يتجمع مئات عديدة من الباحثين عن العمل، يضربون بقسوة، ويجري إذلالهم بوحشية ولابد أن يختم العامل بختم الشركة قبل عبور البوابة مثل البهائم، لكن الختم لابد أن يكون علي القفا وذلك صفعه عشرات المرات، فكرهت الرأسمالية كرها شديدا. عيد صالح مبروك «في تسجيل علي شرائط كاسيت» عندما تركنا الرفيق سيد «عيد صالح مبروك» حزنت حزنا شديدا لأنني لم أستطع أن أقنعه بالجلوس معي لإجراء حوار ولكني فوجئت بالزميل عبدالفتاح أبوعيسي يحضر لزيارتي ومعه تسعة شرائط سجلها عيد وأودعها لديه طالبا أن يسلمها لي فقط بعد رحيله، لأنه كان يخجل من الحديث المباشر عن نفسه، تأملت الموقف وتأملت ما يفعله البعض الآن من افتعال بطولات وهمية ويمنح نفسه ما لا يستحق، وقضيت أياما عشتها مع مناضل حقيقي، متواضع إلي أقصي درجات التواضع، هادئ إلي أقصي درجات الهدوء، شجاع إلي أقصي درجات الشجاعة. الأسرة بدوية استقرت في حي الحدرة بالإسكندرية واشتغلت بالزراعة علي أطراف الإسكندرية، لكن الأولاد تكاثروا ولم تعد الأرض تكفي جميع الأخوة، فانفلت بعضهم ليجد لنفسه عملا آخر، فعمل والده في مهنة غريبة عليه هي تدريب أعضاء نادي اسبورتنج «تنس - اسكواش - جولف» وتخصص الأعمام في هذه المهنة أما الأب فقد أضاف إليها الإشراف علي كافتيريا النادي، وعاشوا عيشة ميسورة إلي درجة أن الأب يدفع للمدرسة أكثر مما تطلبه من مصروفات لابنه عيد، فكان يدفع خمسة قروش كاملة كل شهر بما جعل الابن مدللا حتي فقد الأب عمله بالنادي، واشتغل في إدارة النقل العام بثلاثة جنيهات شهريا فتعين علي عيد أن يترك المدرسة وأن يجد عملا، لكن ماذا يمكن أن يعمل طفل في السابعة من عمره؟ اشتغل صبي بائع خضار يحمل الخضار للزبائن ويوصله إلي بيوتهم، ويقضي يومه في هذه المشاوير وصعود عشرات السلالم، لكن عيد ظل يحلم بالمدرسة والتعليم فبكي لأحد أعمامه فتكفل بمصروفاته وأعاده للمدرسة، لكن المشكلة لم تكن في مصروفات المدرسة وإنما كانت في الحاجة إلي أي قروش يكسبها الطفل ليأكل بها هو وأخوته، وبعد عدة أشهر فقط دخل العم إلي الفصل وانتزع عيد واقتاده إلي نادي سبورتنج ليعمل صبي مدرب تنس، وتأتي الحرب العالمية الثانية وتنهال قذائف الطائرات علي الإسكندرية ويهرب سكانها إلي خارجها حاولت الأسرة أن تفعل ذلك وعلي عربة كارو تجمعوا هم وبعض الكراكيب.. لكن الأب والولد يتعين ذهابهما إلي العمل، ولا مصدر للرزق في القرية فعادوا من جديد ليعيشوا تحت القصف، وفي عام 1942 كان عيد قد بلغ الثانية عشرة من العمر، فكان يهرب من ملعب التنس ليلعب هو مع أطفال الأرستقراطيين أعضاء النادي، الآباء يرفضون أن يلعب هذا الولد الفقير مع أبنائهم، وكان عيد يحسد هؤلاء الأرستقراطيين وأغلبهم من الأجانب والمتمصرين علي استمتاعهم بالرياضة، فقرر أن يفعل مثلهم فجمع عديدا من أطفال الحي الفقير واحتلوا إحدي الخرابات وسموها النادي المصري وجعلوها مرتعا لفرق الكرة الشراب في الأحياء المجاورة وظلت أمنية تداعبهم وهي بضعة جنيهات لشراء عدد عروق من الخشب لتكون قوائم للأجوان، ظل الحلم يداعبهم دون جدوي، حتي أضرب ضباط البوليس في الإسكندرية فأصبحت الإسكندرية تحت رحمة الناس، أما عيد وزملاؤه فقد اقتحموا أحد مخازن الأخشاب وأخذوا فقط ستة عروق بالعدد، وأخذت الأرض الفضاء سمة ملعب كرة حقيقي فسموه نادي الشعلة، لكن ضمير عيد لا يلبث أن يؤنبه فخاض معركة ضارية مع زملائه حتي أقنعهم بإعادة الأخشاب وفيما هم يعيدونها أوشك أصحاب المخزن أن يقبضوا عليهم فتركوا الأخشاب وأطلقوا سيقانهم للريح. وينضج الفتي فيقرر الاشتغال بالسياسة وينضم لمصر الفتاة، وهناك سمع لأول مرة كلمة شيوعي، فهناك عضوان أحدهما اسمه عم حافظ وآخر اسمه علي الجوهري ظل أعضاء مصر الفتاة يهاجمونها لأنهما شيوعيان، وتجري محاولات لطردهما من مصر الفتاة ولكن عيد تعاطف معهما ووقف معهما هو وأعضاء نادي الشعلة وهددوا بترك الحزب إذا طردا. والغريب أنه دافع عنهما دون أن يحاول الاقتراب منهما أو التعرف علي أفكارهما، وكان عيد لم يزل يعمل مدربا للتنس في نادي سبورتنج فخاض وهو في الثامنة عشر معركة تأسيس نقابة للعاملين في النادي، ورفعوا قضية يطالبون فيها بزيادة الأجور، وحكم لهم بزيادة الأجر وبالحصول علي الفارق بأثر رجعي، خضعت إدارة النادي وسلمتهم مستحقاتهم ومعها قرار فصل من العمل، وفي هذه الأثناء كانت شركة الغزل بكفر الدوار تبحث عن لاعبي تنس ليشكلوا فريقا لنادي الشركة وكان ذلك هو جواز مروره إلي كفر الدوار، منذ اليوم الأول أدرك المهانة التي يتعرض لها العمال، وشعر بضرورة أن يفعل شيئا، كان العمال في حالة خوف شديد لكن حقدهم كان شديدا أيضا وسمع أن هناك تنظيما سريا في المصنع يسعي لقتل المديرين وهناك أيضا تعرف علي عدد من الشيوعيين الذين كانوا يسعون إلي ترشيد السخط العمالي ومحاولة تنظيم أحزاب للمطالبة بحقوق العمال، وكان إضراب عمال كفر الدوار الشهير في بداية أيام الثورة، وكان عيد شاهد عيان علي أحداث كفر الدوار لكنه رآها بعيني شخص يقترب من أن يكون شيوعيا. وإلي لقاء نكمل فيه سيرة عطرة لمسيرة شجاعة.