مناضلون يساريون عيد صالح مبروك (2) ما أن جاءت ثورة يوليو حتي اضرب عمال شركة صباغي البيضا كفر الدوار..وحضر محمود باشا شكري ، وبدأ مفاوضات مضنية معهم، لكن أهم ما تمسك إنه قال للعمال وبعنف الألقاب ألغيت في القاهرة لكنها لم تلغ هنا ولهذا كان من الضروري أن تقدم طلباتكم باسم حضرة صاحب العزة المدير» (عيد صالح مبروك في تسجيل علي شرائط كاسيت) ونعود إلي عيد صالح مبروك ليروي شهادته الأخطر عن اضراب كفر الدوار واعدام خميس والبقري.. فقد كان شاهد عيان حضر الأحداث من بدايتها إلي نهايتها. ونبدأ الشهادة: نجح اضراب عمال صباغي البيضا وحققوا قسما كبيرا من مطالبهم (نقابة مستقلة- زيادة الأجور- مكافأة سنوية - علاوة سنوية - اجازة سنوية). وتساءل جيرانهم في شركة الغزل الرفيع بكفر الدوار.. وماذا عنا نحن؟ وبدأت القيادات السرية الموجودة منذ زمن في التحرك بشكل شبه علني وعقدت عدة اجتماعات علي المقاهي، وأيضا في النادي الرياضي وتشكلت قيادة للعمال من محمد متولي الشعراوي- أحمد الياباني- حلمي الجوهري- محمود عطا الله وأنا. وأتفقنا علي الاضراب ورتبنا الأمر بحيث تبقي وردية مكانها وتدخل إلي المصنع الوردية التالية فيكون داخل المصنع ورديتان. لكن بعض جواسيس الإدارة نقلوا المعلومات للإدارة فاستعدت بأن نقلت أوراقها المهمة بعيدا عن الشركة، ودبرت كمينا للعمال فما أن بدأ المضربون في إعلان إضرابهم حتي قام بعض الخفراء من عملاء الإدارة بإشعال حرائق في مكاتب من الشركة. لكن العمال تجمعوا لحماية العنابر وحاولوا إطفاء الحريق المشتعل في المكاتب، لكن رجال أمن الشركة اطلقوا عليهم النار، ولم تتحرك سيارات مطافئ الشركة وازدادت النار اشتعالا وبسرعة تشكلت لجان عمالية لحماية الآلات. وبالفعل ظلت الآلات وعنابر الإنتاج سليمة، وفي الصباح أتي الجيش، وحاصرت المدرعات المصنع وسدت البوابات ورسموا بالجير خطوطا علي الأرض وحذروا أن من يتخطي هذه الخطوط سيطلق عليه الرصاص. ثم اطلقت شائعة أن محمد نجيب سيحضر ليستمع إلي العمال، فتحركت مظاهرة من العمال المحاصرين داخل المصنع كي يستقبلوا محمد نجيب ويعرضوا عليهم مطالبهم. وتناوب علي الهتاف مصطفي خميس وأنا. كانت هتافاتنا عادية، نرحب بنجيب ونطالب الثورة بحماية العمال. وصلت المظاهرة قرب الخط الأبيض، فتردد المتظاهرون، كان الدور علي مصطفي خميس كي يقود الهتاف الذي اعطي ظهره للجنود وبدأ يدعو العمال لتجاوز الخط الأبيض، ومع أول خطوة منه تجتاز الخط الأبيض اختطفه الجنود وبدأوا في ضربه ضربا مبرحا وقبض عليه ، وبدأ إطلاق الرصاص علي العمال في المليان، فزع العمال من المفاجأة وتزقوا في شوارع المصنع لكن السيارات المدرعة وسيارات الجيب أخذت تطاردهم لتقتل العديد منهم. واستطيع أن أقرر أن أكثر من خمسمائة عامل قد قتلوا في هذه المذبحة، وصدرت الأوامر بعد ذلك باعدام وثائق مستشفي كفر الدوار العام حتي لا يستطيع أحد التعرف علي عدد القتلي أو اسمائهم وفي الدعايات الصحفية بررت قيادة الثورة اطلاق الرصاص الحي بكثافة علي العمال بأن رصاصا اطلق من المتظاهرين وقتل جنديين لكنني أؤكد أن التحقيق اثبت أن الرصاص الذي قتل الجنديين أتي من خارج المصنع ومن مساكن الخفراء من عملاء الشركة. والمهم أن قرارا بحظر التجول ثلاثة أيام ومنع الدخول من أبواب الشركة. كان العمال قد قفز أغلبهم عبر السور هاربين من الرصاص ولكن بقي عدة مئات من العمال الأكثر وعيا كانوا يحمون آلات المصنع فجمعوهم وأمروهم أن ينطبحوا أرضا علي بطونهم لمدة 48 ساعة وأعلن الضابط للجنود كل من يرفع رأسه اطلقوا عليه الرصاص. ويمضي عيد من تسجيلاته «كانت المحاكمة مهرجانا لارهاب عمال مصر جميعا جمعوا آلافا من عمال الإسكندريةوكفر الدوار رغم انوفهم ليحضروا المحاكمة ثم امروهم وهم جلوس علي الأرض علي الاستماع إلي الحكم الذي تلاه ضابط من فوق ظهر دبابة في دلالة لا تخفي علي أحد: والحكم خميس والبقري اعدام وثمانية وعشرون عاملا بالسجن. ويحكي عيد انعكاس الاعدام علي العمال وكيف أنهم كانوا يتهامسون بأن اقطاعيا هاجم قسم شرطة في الصعيد واطلق الرصاص وقتل سيدة وحوكم في الوقت ذاته بالسجن ثم ما لبث ان افرج عنه، والمثير للدهشة أن العمال لم يتراجعوا رغم هذه الوحشية فقدموا مذكرة بطلباتهم فحصلوا علي مكافأة شهرين كل سنة وعلي زيادة العلاوة السنوية وعلي حقهم في اقامة نقابة مستقلة. ومنذ الانتخابات الأولي للنقابة سيطرنا علي مجلس الإدارة ونظمنا بعدها 44 اضرابا وزادت الأجور بنسبة 150%. وفي أحد الاضرابات حضر حسين الشافعي وطلب رئيس النقابة وكان محمود عطا الله (عضو حدتو) وسأله الشافعي انتم كام عامل فرد 000ر12 عامل فقال الشافعي سأجعل منكم 000ر12 خميس والبقري ورد عطا الله بعفوية «ماشي» وتركه ومضي. وفي 1954 وكانت أزمة الحكم تلتهب استدعي الطحاوي وطعيمة القائد العمالي متولي الشعراوي وطلبا منه تنظيم اضراب لمساندة عبد الناصر فقال لهما سأعرض الأمر علي مجلس النقابة واتخذ مجلس النقابة قرارا غريبا هو ابلاغ النيابة ضد طعيمة والطحاوي لأنهما يحرضان علي الإضراب والإضراب ممنوع قانونا. كل هذا وعيد لم يقدم حكايته كيف أصبح شيوعيا. «كنت أجلس كثيرا أمام محل عبد الفتاح أبو عيسي (اشهر صانع احذية في الاسكندرية) والحلواني المجاور لا يكف عن الحديث عن الشيوعية هو وصديق له يوناني. ويبدو أن أحدهما كان علي علاقة ما بحدتو فإذا بأحد أعضاء حدتو يتصل بعيد وعبد الفتاح ويضمهما إلي حدتو وكرس عيد جهده في بناء منظمة حزبية في المصنع فضم عديدا من العمال ومنهم اثنان اصبحا قادة النقابة محمد عطا الله وأحمد الياباني. واسهم عيد في تأسيس اتحاد عمال الغزل والنسيج وأصبح الياباني وكيلا للاتحاد. وإذ يأتي العدوان الثلاثي يرفع عمال كفر الدوار شعار«نصف العمال للمعركة والنصف للإنتاج» وسافر عديد من العمال إلي الجبهة وزاد الإنتاج بنسبة 100% وفي يناير 1959 يقبض عليه وفورا يصدر قرار بفصله من العمل بحجة انه شيوعي ويعاني من التعذيب الوحشي ويروي في التسجيلات قصصا تشبه الخرافات عن وحشية التعذيب. أحد الجنود يظل يضربه بعنف ثم صاح «الله يخرب بيتك حاموت من كتر ضربي فيك». والمجلس العسكري العالي يحكم عليه بثماني سنوات اشغال شاقة. ويفرج عنه ليواجه بعدها بقليل بقرار الحل لكنه تلاقي مع عدد من الرفاق القدامي في محاولة لإعادة تأسيس الحزب، ثم يكتشف أن رفاقا اعادوا التأسيس فانضم إليهم وواصل نضاله معهم حتي اصبح عضوا في المكتب السياسي. ويبقي مناضلا بثبات هادئ ومتواضع ومتفان حتي يرحل.