تعرف علي نص قانون التوقيت الصيفى مع تطبيقه الجمعة المقبلة    رئيس هيئة الاستعلامات: إسرائيل لم تحقق شيئا في غزة وتحاول تقديم أي انتصار وهمي لشعبها    المتحدة للخدمات الإعلامية تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة من الشباب    تعرف علي أسعار العيش السياحي الجديدة 2024    لليوم الثالث.. تراجع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 24 أبريل 2024    قبل إجازة البنوك .. سعر الدولار الأمريكي اليوم مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية الأربعاء 24 أبريل 2024    تراجع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024    تراجع جديد لأسعار الذهب العالمي    تعرف علي موعد تطبيق زيادة الأجور في القطاع الخاص 2024    عودة المياه تدريجيا بمنطقة كومبرة بكرداسة    رئيس هيئة الاستعلامات: الكرة الآن في ملعب واشنطن لإيقاف اجتياح رفح    واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأمريكية بعد هجومين جديدين    بعد تأهل العين.. موعد نهائي دوري أبطال آسيا 2024    أرسنال يحقق رقمًا مميزًا بعد خماسية تشيلسي في الدوري الإنجليزي    حلمي طولان: الأهلي والزمالك لديهما مواقف معلنة تجاه فلسطين    رئيس نادي النادي: الدولة مهتمة بتطوير المنشآت الرياضية    يوفنتوس يضرب موعدًا مع نهائي كأس إيطاليا رغم هزيمته أمام لاتسيو    الخطيب يفتح ملف صفقات الأهلي الصيفية    موعد مباريات اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024| إنفوجراف    أمير هشام: إمام عاشور لم يتلقى عروض للرحيل ولا عروض ل "كهربا" و"الشناوي"    الأشد حرارة خلال ربيع 2024.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024    تحذير شديد بشأن الطقس اليوم الأربعاء .. ذروة الموجة الخماسينية الساخنة (بيان مهم)    وفاة 3 اشخاص وإصابة 15 شخصا في حادث تصادم على الطريق الإقليمي بالشرقية    محافظ الغربية: ضبط طن رنجة غير صالحة للاستخدام الآدمي وتحرير 43 محضر صحي    قيادي بالشعب الجمهوري: ذكرى تحرير سيناء درس قوي في مفهوم الوطنية والانتماء    شم النسيم 2024.. الإفتاء توضح موعده الأصلي    حظك اليوم برج الدلو الأربعاء 24-4-2024 مهنيا وعاطفيا.. الماضي يطاردك    أول تعليق من نيللي كريم بعد طرح بوستر فيلم «السرب» (تفاصيل)    السياحة توضح حقيقة إلغاء حفل طليق كيم كارداشيان في الأهرامات (فيديو)    بالصور.. حفل «شهرزاد بالعربى» يرفع لافتة كامل العدد في الأوبرا    مشرفة الديكور المسرحي ل«دراما 1882»: فريق العمل كان مليء بالطاقات المبهرة    شربنا قهوة مع بعض.. أحمد عبدالعزيز يستقبل صاحب واقعة عزاء شيرين سيف النصر في منزله    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    الاعتماد والرقابة الصحية توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنوفية لمنح شهادة جهار- ايجيكاب    فحص 953 مواطنا بقافلة بقرية زاوية مبارك بكوم حمادة في البحيرة    طريقة عمل الجبنة الكريمي من اللبن «القاطع»    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    تعرف على طرق وكيفية التسجيل في كنترول الثانوية العامة 2024 بالكويت    ما أهمية بيت حانون وما دلالة استمرار عمليات جيش الاحتلال فيها؟.. فيديو    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    أمين الفتوى: "اللى يزوغ من الشغل" لا بركة فى ماله    عادات خاطئة في الموجة الحارة.. احذرها لتجنب مخاطرها    الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضيه    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    مقتل وإصابة 8 مواطنين في غارة إسرائيلية على منزل ببلدة حانين جنوب لبنان    أبو عبيدة: الرد الإيراني على إسرائيل وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    عضو ب«التحالف الوطني»: 167 قاطرة محملة بأكثر 2985 طن مساعدات لدعم الفلسطينيين    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    عربية النواب: اكتشاف مقابر جماعية بغزة وصمة عار على جبين المجتمع الدولى    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مع الأيام"مذكرات يساري عن السلطة والعسكر
نشر في الوفد يوم 26 - 01 - 2011

تزخر الحركة الشيوعية المصرية بتجارب صاخبة اقتربت من السلطة وتشابكت مع رموزها واتفقت واختلفت وخاضت حروبا ومعارك مثيرة طوال القرن الفائت‮.
‬لقد عرفت مصر أفكار الشيوعية مبكرا منذ رحلة رفاعة الطهطاوي الي باريس ثم تأسيس أول حزب اشتراكي عام‮ 1908‮ مع ذيوع أفكار شبلي شميل عن الاشتراكية‮. ثم ظهور عدة مدارس فكرية‮ شيوعية في مصر قادها وسيطر عليها مثقفو العائلات اليهودية أمثال هنري كورييل ومارسيل اسرائيل وشوارتز ثم تمصير تلك الحركات وظهور جيل وطني مصري‮ يمثل اليسار بمختلف فئاته‮.
ومن هذا المنطلق تكتسب شهادات رموز اليسار أهمية كبري خاصة في ظل خفوت دور اليسار المصري في المجتمع وتراجع نشاط الحزب الشيوعي‮ غير الرسمي الذي ظل‮ يعمل بشكل سري في مصر منذ عام‮ 1922‮ ودخوله الي نفق الخلافات مع باقي احزاب وتنظيمات اليسار وعلي رأسها حزب التجمع الاشتراكي،‮ فضلا عن تراجع الفكر الشيوعي وعدم ظهور مدارس شبابية جديدة مثل حدتو واسكرا وغيرهما‮. إن محمود توفيق احد كوادر الحركة الشيوعية اختار أن‮ يتحدث بعد‮ 84‮ عاما قضاها في معترك السياسة والادب والمحاماة‮. هو القائل‮:‬
‮"‬أيها الشعبُ‮ تنبه للذئاب العاوية‮/ صنعوا القانون صُنعاً‮ بالأكُفِّ‮ الدامية‮/ ومضوا بالشعب في الظُلمةِ‮ نحو الهاوية‮/ فانتفض‮ يا شعبُ‮ فالآفاق أضحت داوية‮".‬
وهو رفيق كفاح وتلميذ هنري كورييل،‮ شهدي عطية الشافعي،‮ وزميل احمد حمروش ومحمد عمارة ورفعت السعيد‮. وهو البطل الحقيقي الذي فضح جريمة اغتيال شهدي عطية تحت وطأة التعذيب في‮ 15‮ يونيو عام‮ 1960‮ رغم أن كثيرين قبله قتلوا في المعتقل ولم‮ يعرف بهم احد الا بعد سنوات من اغتيالهم،‮ وهو أيضا صهر وابن خال‮ يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة وصاحب الفضل الحقيقي في نجاح الهجوم‮ يوم‮ 23‮ يوليو عام‮ 1952‮ علي قيادة الجيش‮.
في هذه المذكرات التي تصدر عن دار‮ "‬ميريت‮" للنشر خلال الاسبوع القادم؛ اختار لها الشاعر عنوانا لافتا هو‮ "‬مع الايام‮" او ذكريات شاعر مناضل تتكشف لنا أحداث عديدة حول التنظيمات الشيوعية ونشأتها في مصر ودورها في العمل السياسي وعلاقتها بالسلطة‮. كما ترصد المذكرات التي تزيد علي‮ 900‮ صفحة مقسمة علي جزءين مآساة الشاعر والضابط‮ يوسف صديق الذي اختلف مع عبد الناصر فكان جزاؤه النسيان والسجن،‮ ثم مات فقيرا وحيدا بعيدا عن الاضواء‮. كذلك تلقي المذكرات الضوء علي سنوات مصر ما قبل‮ يوليو عندما كانت السياسة متداولة ومنتشرة بين أفراد الشعب كالماء والهواء‮.‬
البدايات‮
بدأت السياسة تدق باب الشاعر محمود توفيق مبكرا‮ ،‮ في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما كان تلميذا صغيرا في المدرسة الابتدائية في الواسطي وأخبرهم الناظر أن المدرسة ستغلق ثلاثة أيام لوفاة الملك فؤاد‮. وبعدها بشهور عرف الرجل معني كلمة‮ "‬سياسة‮" عندما وجد زميلا له‮ يقود مظاهرة من طلاب المدرسة لاستقبال النحاس باشا الزعيم المحبوب في محطة القطار‮. وفي‮ يوم عيد الجهاد عام‮ 1937‮ احتفل الطلبة بالوفد علي طريقتهم بالهتاف للنحاس زعيم الامة والمناداة بالاستقلال والحرية‮. في تلك الاثناء بدأ محمود توفيق‮ يعرف مباديء السياسة الاولي علي‮ يد ابن عمته وزوج شقيقته‮ يوسف صديق‮. كان‮ يوسف صديق وقتها ضابطاً‮ في الجيش برتبة صاغ،‮ وكان‮ يجلس ليقرأ لمحمود باللغة العربية والفرنسية والانجليزية وكان‮ يحب التاريخ والجغرافيا والفلسفة والشعر والأدب‮. ومنه عرف محمود توفيق طريقه الي الأدب والسياسة‮. كما تأثر صاحب المذكرات بوالده اليوزباشي محمد توفيق الذي كان شاعرا مخضرما،‮ ووفديا أصيلا والذي من بين أشعاره قصيد شهيرة‮ يقول فيها‮:‬
‮"‬الشعب‮ غير مُعَلِّقٍ‮ أماله‮/ الا بذمة مصطفي النحاس‮". ومن أشعاره أيضا التي لا‮ ينساها محمود توفيق‮:
‮"‬إيه‮ يا نحاسُ‮ كن نُحساً‮ علي‮/ دولة الفرد وحُكم الجائرين‮/ مُر فما في مصر الا طاعة‮ / لزعيم الوفد فخر الآمرين‮/ كل شرع سنه الوفد لنا‮/ هو دين القبط قبل المسلمين‮".‬
وفي كلية الحقوق عاش الشاعر جو المظاهرات والاضرابات والمسيرات المطالبة بالاستقلال وتعرف علي كوادر الحركة الطلابية وتابع حروب النضال ضد اسماعيل صدقي باشا وقبض عليه في احدي المظاهرات وتعرض للضرب وهو ما دفعه لكتابة قصيدة‮ غاضبة‮ يحيي فيها نضال الطلبة جاء فيها‮:‬
‮"‬أيها المظلوم والأدمع بَحْرٌ‮ زاخِرُ‮ / وشقاء الشعب أنواءٌ‮ وموجٌ‮ هادِرُ‮ / في‮ غَدٍ‮ يبدو علي الأفق شعاعٌ‮ باهِرُ‮/ ويَدُكُّ‮ السجنَ‮ والسجانَ‮ شعبٌ‮ ظافِرُ‮".‬
في تلك الاثناء بدأ محمود توفيق قراءة الجدلية‮ ،‮ والبيان الشيوعي‮ ،‮ وتعاليم كارل ماركس ولينين‮ . وفيما بعد أبلغ‮ " توفيق‮ " صديقه وزميله كمال عبد الحليم رغبته في الانضمام الي الحركة المصرية‮ للتحرر الوطني‮ "‬حمتو‮" وهي التي تطورت بعد ذلك الي حركة‮ "‬حدتو‮".
لقاء مع هنري كورييل
وفيما بعد سيكبر دور‮ "‬توفيق‮" التنظيمي وسيكتب مقالات حول ظروف الفلاحين ستثير إعجاب احد أبرز قادة الحركة الشيوعية في مصر وهو هنري كورييل‮. يقول صاحب المذكرات‮ " قابلته لأول مرة،‮ ولم أكن قد التقيت به من قبل،‮ غير أني كنت قد عرفته‮ - شأني في ذلك شأن الكثيرين‮ - مما نشر عنه في الصحف،‮ بمناسبة اعتقاله،‮ ومن الصور التي نشرت له في تلك المناسبة،‮ صوره وهو‮ يرتدي القميص والشورت،‮ وينتعل صندلاً‮ بسيطا،‮ ومع الصور كانت هناك عناوين ومانشتات كبيرة عن القبض علي زعيم الشيوعية في مصر،‮ المليونير اليهودي هنري كورييل‮ . كان ميعاد لقائي به‮ غريباً،‮ فكان علي أن أقف لانتظاره علي الرصيف الموازي لسينما بارادي‮ "‬الصيفية‮" في شارع عبد العزيز،‮ في مواجهة محل عمر أفندي،‮ وسوف‮ يحضر هو في الوقت الفلاني،‮ ليلقاني‮ ،‮ وفي الموعد المحدد كنت واقفاً‮ في المكان المتفق عليه،‮ وأنا لا أعرف من أين سيأتي الرفيق‮ "‬أبو حجاج‮"‬،‮ ولم تطُل حيرتي‮. كما لم‮ يطل انتظاري،‮ ففي الساعة المحددة بالضبط،‮ لا قبل دقيقة منها ولا بعد دقيقة،‮ توقفت سيارة بجواري مباشرة،‮ ورأيت‮ "‬أبو حجاج‮" يقودها‮. ثم فتح زجاج النافذة اليمني الأمامية،‮ وناداني بصوت خفيض‮: بشار؟‮ (‬اسمي الحركي‮)‬،‮ فلما قلت له‮: أيوه،‮ أشار إليّ‮ بأن أركب إلي جانبه،‮ ففعلت،‮ وانطلق بي مبتعداً‮ في الطريق‮. وكانت تلك هي سيارته الستروين التي اشتهرت بعد صورها التي نشرت في الصحف،‮ بمناسبة الحملة،‮ وكانت شوارع القاهرة هادئة في تلك السنوات،‮ خاصة في ساعات المساء‮".‬
كان أبو حجاج أو هنري كورييل رجلاً‮ نحيلاً‮ يميل إلي الطول،‮ وبجسمه انحناءة بسيطة عند الكتفين،‮ وكان‮ غزير الشعر أسوده وسيم القسمات،‮ يرتدي نظارة سميكة العدسات‮. وقال‮ "‬كورييل‮" ل"توفيق‮" ان العمل في الريف‮ يحتاج الي ثوريين محترفين‮.‬
وفي نهايات الاربعينيات عرفت مصر انتفاضات وهبات عديدة للعمال للمطالبة بحقوقهم سقط خلالها عشرات الشهداء‮.‬
قصة الثورة‮
وتحكي المذكرات دور‮ يوسف صديق في ثورة‮ يوليو ويكشف صاحبها أن ابن عمته‮ يوسف صديق أخبره في منتصف شهر‮ يوليو عام‮ 1952‮ بانضمامه الي تنظيم مسلح‮ يستهدف تغيير نظام الحكم‮. وفي ليلة‮ 22‮ يوليو أخبره‮ "‬صديق‮" أنهم سيقومون بانقلاب عسكري خلال الليلة‮. وقال له قريبه‮ :
‮- "‬سنقوم بانقلاب عسكري الليلة،‮ وحبيت أشوفك علشان أبلغك،‮ وعلشان تعمل حسابك تعمل اللازم إذا حصل لي أي حاجة،‮ وتكون أنت المسئول عن الاولاد،‮ هنا‮". وقد سأله مرة أخري‮: هل أنت واثق من هذا التنظيم،‮ ومن هؤلاء الضباط؟‮. هل أنت واثق من وطنيتهم ورجولتهم؟‮ ولكن‮ يوسف بدا مطمئناً‮ من هذه الناحية،‮ وقال له‮: أنا لا أعرفهم كلهم،‮ أنا أعرف بعضهم فقط،‮ وهم‮ "‬أشخاص أكثر مني وطنية وإخلاصاً‮". وسأله‮: ومن رئيس هذه الحركة؟ فقال‮ : أنت تعرفه،‮ إنه اللواء محمد نجيب‮.‬
ساعات وقامت الثورة وحكي‮ يوسف صديق ما جري تماما‮ : وفي ساعة الصفر تماماً‮ منتصف الليل‮ - بدأت مسيرتنا.كان عدد الجنود ستين جندياً،‮ هم جنود مقدمة الكتيبة‮ 13‮ مشاه‮ - كتيبتنا،‮ ومع كل واحد بندقية ومائة طلقة رصاص‮. وكان معظمهم من الحرفيين من طهاة ونجارين وما أشبه،‮ من التخصصات الإدارية‮. أمرت بتقسيمهم إلي ثلاث فصائل،‮ كل منها‮ يتكون من عشرين جندياً،‮ وكل فصيلة تركب في سيارة‮ (‬لوري‮) واحدة،‮ وأمرت بأن تكون السيارات الثلاث‮ - التي تحمل الجنود،‮ ومعهم بعض الضباط،‮ في مقدمة الموكب،‮ بعد سيارتي الجيب مباشرة،‮ والتي كان بها معي اثنان من الضباط‮.
وقبل التحرك‮ بثوان معدودات،‮ تلقي‮ "‬صديق‮" إبلاغا من عامل التليفون،‮ بأن قائد الفرقة اللواء عبد الرحمن مكي،‮ كان قد اتصل تليفونيا طالباً‮ إرسال سيارته إلي منزله في مصر الجديدة،‮ لتحمله إلي المعسكر،‮ وحدثت ملابسات جعلت إبلاغي بهذا الأمر‮ يتأخر حتي الآن‮. ومعني ذلك أن قائد الفرقة علي وشك الوصول إلي المعسكر،‮ وأنه بمجرد دخوله من بوابته،‮ ستكون له الكلمة العليا،‮ ولن‮ يستطيع أحد أن‮ يخالف أمره‮. لذلك اضطر‮ يوسف صديق للخروج من المعسكر وايقاف سيارة القائد وابلاغه انه مقبوض عليه‮.
ثم توجه‮ يوسف صديق الي القيادة العامة بكوبري القبة وقام باحتلال القيادة واعترضه احد العسكريين فاضطر ان‮ يطلق الرصاص علي قدمه وهو الشيء الوحيد الذي ندم عليه في تلك الليلة‮. ووجد‮ يوسف‮ بعد ذلك جمال عبدالناصر وعبد الحكيم عامر‮ يلحقان به بعد ان سيطر علي القيادة العامة تماما‮.
الصدام مع اليسار‮
لقد بدأت ثورة‮ يوليو عهدها بضربة قاصمة لليسار ورفضت الافراج عن المعتقلين اليساريين‮ وكانت أخطر هذه السقطات،‮ هو موقف مجلس القيادة من أحداث كفر الدوار،‮ أو القضية المشهورة بقضية خميس والبقري،‮ والتي اتخذ فيها مجلس الثورة موقفاً‮ بالغ‮ الخطأ والسوء،‮ حتي أن بعض الكتاب قد وصفوه بالهمجية‮. وتلخص أحداث القضية في أن عمال شركة مصر للغزل والنسيج الرفيع بكفر الدوار وعددهم عشرة آلاف عامل،‮ قاموا في‮ يومي‮ 12،‮ 13‮ أغسطس‮ 1952‮ بإضراب للمطالبة ببعض الحقوق المالية لدي الشركة،‮ وكان‮ يمكن أن‮ يمر ذلك الإضراب بهدوء شأن الكثير من الإضرابات،‮ ولكن البوليس تعرض للإضراب بشكل استفزازي ما أدي إلي حدوث اشتباكات أدت إلي اشتعال بعض الحرائق،‮ واستنجدت إدارة الشركة بقوات الجيش التي نزلت إلي ساحة الأحداث،‮ وتصادمت مع العمال،‮ ما أدي إلي مصرع ثلاثة جنود،‮ وثلاثة عمال،‮ وإلي إصابة‮ 28‮ شخصاً‮ بجراح‮. ورغم أن احتمال المؤامرة من جانب العناصر اليمينية في إدارة الشركة كان راجحاً،‮ إلا أن حركة الجيش،‮ التي لم‮ يكن قد مر علي قيامها سوي ثلاثة أسابيع،‮ قد تصرفت برعونة بالغة،‮ تحت وهم أن هذه المظاهرة هي بداية أعمال مضادة لحركة الجيش‮. وقررت الحركة إخماد حركة العمال بعنف بالغ،‮ فأرسلت قوات كبيرة من الجيش بالدبابات لقمع العمال،‮ ثم قامت بتشكيل مجلس عسكري،‮ تطوع لرئاسته عبد المنعم أمين‮ - عضو مجلس القيادة‮ (‬المشهور بميوله اليمينية المتطرفة،‮ والمعروف بعلاقته بالسفارة الأمريكية‮)‬،‮ واشترك في عضويته حسن إبراهيم،‮ عضو مجلس القيادة،‮ وأحد أفراد مجموعة الطيران اليمينية،‮ وضباط آخرون،‮ منهم الضابط جمال القاضي الذي اشتهر بعد ذلك بعنفه البالغ‮ في مواجهة المسجونين والمعتقلين من نزلاء السجن الحربي‮.‬
كما حدث في محاكمة دنشواي الشهيرة،‮ والتي أقامها الجيش الإنجليزي لفلاحي دنشواي،‮ جرت محاكمة عمال كفر الدوار،‮ علي عجل،‮ وفي موقع الأحداث بكفر الدوار،‮ جري فيها انتهاك واضح لحقوق الإنسان وحقوق الدفاع،‮ وحرم المتهمون من الاستعانة بمحامين للدفاع عنهم،‮ كما حرموا من حقهم في طلب شهود علي براءتهم‮. وكلفت المحكمة الصحفي موسي صبري‮ - الذي كان حاضراً‮ الجلسة بصفته الصحفية بالدفاع عن مصطفي خميس،‮ بحجة أنه حاصل علي ليسانس الحقوق‮. وتمت المحاكمة في جو من الإرهاب والترويع،‮ وأخيراً‮ صدر الحكم علي عجل قاضياً‮: بإعدام كل من العاملين مصطفي خميس،‮ ومحمد حسن البقري،‮ وبالسجن علي بقية المتهمين‮ - ومنهم عامل لم‮ يتجاوز الثامنة عشرة من عمره،‮ لمدد مختلفة‮.
‮ وعندما جري تنفيذ حكم الإعدام،‮ وقف خميس صارخاً‮ بأعلي صوته‮: أنا بريء ومظلوم،‮ وأريد إعادة محاكمتي‮. ولكن صرخته كانت صرخة في واد،‮ ذهبت أدراج الرياح،‮ وإن كانت قد سجلت في سجل التاريخ‮.
تلا ذلك إنتهاج الثورة طريق القمع والإرهاب لكل المعارضين لعملية انفرادها بالسلطة،‮ وبدأ ذلك بضباط الجيش،‮ الأحرار،‮ وغير الأحرار‮. وفي‮ 15‮ يناير‮ 1953‮ تم اعتقال عدد كبير من ضباط المدفعية،‮ الذين سيقوا إلي سجن الأجانب برتبهم وبملابسهم العسكرية،‮ وهي سابقة لم‮ يحدث لها مثيل في مصر من قبل،‮ ثم أحيل الكثير منهم إلي المحاكمات العسكرية،‮ حيث صدرت ضد الكثيرين منهم أحكام بالسجن،‮ وصلت إلي حد الحكم بالإعدام علي أحدهم‮ (‬حسني الدمنهوري‮) وبالأشغال الشاقة المؤبدة علي آخر‮ (‬هو رشاد مهنا،‮ الذي كان عضوا في لجنة الوصاية علي العرش التي كانت الثورة قد شكلتها‮). وبعد ضباط المدفعية،‮ حل الدور علي ضباط الفرسان،‮ فاعتقل عدداً‮ كبيراً‮ منهم،‮ وسجنوا وحوكموا وصدرت ضد الكثيرين منهم أحكام بالسجن لمدد مختلفة‮ . وبعد العسكريين،‮ بيوم واحد،‮ تم اعتقال عدد كبير من السياسيين المدنيين،‮ كان منهم‮ 48‮ شيوعياً،‮ كان محمود توفيق‮ أحدهم،‮ بالإضافة إلي‮ 144‮ حزبياً‮ من‮ غير الشيوعيين‮.
خلف القضبان
وتمضي الايام بمحمود توفيق الذي‮ يعمل بالمحاماة علنا وبالسياسة سرا من محنة الي أخري حتي‮ يجد نفسه خلف القضبان متهما مع مجموعة من زملاء الحركة‮ . وفي السجن التقي الشاعر بالاميرلاي محمود عبد المجيد المتهم الرئيسي في حادث اغتيال الامام حسن البنا وفوجيء أنه‮ يعامل معاملة فندقية ويأتيه الغذاء كل‮ يوم من أفخم المطاعم‮ . كما التقي بعشرات من معتقلي الاخوان المسلمين الذين حكوا له كيف عذبوا وضربوا وحكوا له ايضا‮ كيفية إحضار الإخوان الستة من‮ غرف المحكوم عليهم بالإعدام،‮ إلي‮ غرفة المشنقة في قضية المنشية،‮ وكيف واجه كل منهم الموقف‮. واتفقوا جميعاً‮ في روايتهم عن المرحوم عبد القادر عودة،‮ الذي جاء‮ يمشي بقوة وثبات،‮ وقال بصوت جهوري بعد أن قرأ فاتحة الكتاب‮: إنا لله وإنا إليه راجعون،‮ ثم صاح وهو‮ يدخل إلي‮ غرفة المشنقة‮: اللهم اجعل دمي لعنة علي رءوس رجال الثورة أجمعين‮. قال هذا ثم دخل إلي المشنقة وهو‮ يردد‮: ولست أبالي حين أُقتل مسلماً،‮ علي أي جنب كان في الله مصرعي‮.
وعندما علم الشاعر أن الفريق فؤاد الدجوي هو الذي سيرأس محاكمته علم أن الاحكام معدة مسبقا،‮ وفي بداية الجلسة سأل الفريق الدجوي إن كان هناك أي معترض علي رئاسته للمحاكمة فقام محمود توفيق وقال‮: انا معترض‮. وأفاض ان الفريق الدجوي ليس من حقه أن‮ يفصل في القضاء لأنه‮ غير عالم بالسياسة وقد ذكر في حديث مع مجلة روزاليوسف ان الصهيونية والشيوعية وجهان لعملة واحدة وهو ما‮ يؤكد جهله التام بالسياسة‮. وقال محمود توفيق أيضا‮: أنت تتظاهر بالعدل وأنت في الحقيقة ممثل هزلي والاحكام معدة سابقا‮. ولاشك أن ذلك الحديث الجريء أثار‮ غضب الدجوي ولو استطاع الحكم بالاعدام علي‮ "‬توفيق‮" لفعل،‮ لكن لأن الاحكام كانت ترسل من جهات أخري فأصدر الحكم‮ المعد مسبقاً‮ وهو السجن ثماني سنوات‮ . ويتذكر صاحب المذكرات عندما وقع فؤاد الدجوي أسيرا في أيدي الاسرائيليين‮ يوم‮ 5‮ يونيو عام‮ 1967‮ ويشكرهم علي حسن معاملتهم ويسلمهم كامل أسلحة فرقته‮. ولكن القصة لاتنتهي عند هذا الحد،‮ إذ علم الناس جميعاً‮ أن الفريق الدجوي أفرج‮ عنه بعد إبرام الهدنة،‮ وأعيد إلي عمله بالقوات المسلحة،‮ ثم قام بعد ذلك برئاسة مجالس عسكرية حاكمت العديد من المصريين‮.. فتأمل‮!‬
وفي نفس السنوات سيغضب النظام الناصري علي بطل ليلة‮ 23‮ يوليو‮ يوسف صديق وسيلقي به في السجن الحربي وسيضطهد كثير من أقاربه ومن بينهم‮ "‬توفيق‮" بسبب قصيدة كتبها‮ يوسف صديق عن‮ "‬ناصر‮" يقول في مطلعها‮: افرعون مصر وجباره‮/ صحوت لها من وراء القرون‮. وقد تدخل اصدقاء السلاح للصلح بين الزعيم والبطل وخرج‮ يوسف صديق الي سماء الحرية وخرج معه صاحب المذكرات ليعود الي المحاماة وينعزل قليلا عن السياسة‮.
اغتيال شهدي عطية‮
وتحكي مذكرات محمود توفيق فضح جريمة اغتيال زميله شهدي عطية في‮ يونيو‮ 1960.‬‮ لقد كان محاميا وقتها وكان‮ يعمل لديه جمال عطية شقيق شهدي وأخبره أن شهدي قتل تحت تأثير الضرب في السجن وأنه اطلع علي الجثة فوجد بها عدة اصابات وتم دفنها في مقابر الامام الشافعي بحضور الشرطة‮ . وقتها طلب محمود توفيق منه أن‮ يذهب الي الاهرام وينشر النعي التالي‮:
‮"‬عطية الشافعي وأسرته‮ ينعون بعد أن واروا عزيزهم فخر الشباب،‮ الأستاذ شهدي عطية الشافعي مقره الأخير،‮ ويقولون لمن واساهم فيه‮: لن نشكركم فالشكر لكم في هذا الموقف نكران لوفائكم‮. وشهدي وذكراه ملك لكم وأمانة في ضمائركم،‮ أما أنت‮ يا عزيزنا الغائب فإننات نرثيك بهذا‮:
فتي مات بين الطعن والضرب ميتةً‮ / تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ‮ / تردي ثياب الموت حُمراً‮ فما دجي‮ /‬لها الليل إلا وهي من سُندسٍ‮ خُضرُ‮ / وقد كان فوت الموت سهلاً‮ فردَّه‮ / اليه الحفاظ المُر والخلق الوعرُ‮. "
ولم‮ ينتبه مسئولو وفيات الاعلان بجريدة الاهرام‮ لنص النعي ونشره كما هو وانقلبت الدنيا رأسا علي عقب،‮ وكان الرئيس عبدالناصر في‮ يوغسلافيا عندما سأله الصحفيون عن قتل شهدي عطية تحت التعذيب واستشهدوا بالنعي‮. ونفي‮ "‬ناصر‮" الاتهام وبعث‮ يأمر بالتحقيق في مقتل المناضل اليساري‮. وسيتطوع احمد الخواجة المحامي بإقامة دعاوي ضد قتلة شهدي وستذهب شهادات زملائه في المعتقل هباء وسيضيع صوت الحق في زمن الحكم المتسلط‮.
وسيختفي صاحب المذكرات من حلبة السياسة سنوات طويلة الي أن‮ يدق زائر الليل بابه مرة أخري عام‮ 1975‮ ليتهم مرة أخري بتشكيل تنظيم شيوعي لقلب نظام الحكم وفي السجن سيكتب‮ "‬توفيق‮" نعي زوج شقيقته وابن عمته وصديق عمره‮ يوسف صديق،‮ والذي تجاهلوه واضطهدوه لأنه طالب بالديمقراطية‮ يوما ما‮. وفي‮ 15‮ مايو‮ 1975‮ يصدر حكما بالافراج عن تنظيم محمود توفيق بالكامل ليعود ليتنفس هواء الحرية‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.