الفيللا الجميلة الواقعة على مدخل شارع إسماعيل محمد بالزمالك، والتى أصبحت معروفة فى الأسابيع الماضية أكثر من أى مبنى آخر فى الحى القاهرى الراقى بسبب أو «بفضل» مباراة كرة القدم الشهيرة بين مصر والجزائر فى تصفيات كأس العالم فى الخرطوم وقبلها فى القاهرة. فقد اكتشف المصريون فى زحمة حمى إعلامية عمياء أن للجزائر الشقيقة سفارة تقع فى حى الزمالك، وراح بعضهم ينادى بطرد سفير الدولة الشقيقة، وراح البعض الآخر يقذف المبنى الأنيق بالحجارة، ولولا تدخل أجهزة الأمن السريع لحدثت كارثة. ولو أن أحجار الفيللا الأنيقة التى تضم مكاتب السفارة الجزائرية نطقت لكشفت للغوغاء عن حلقة مثيرة سياسيا وإنسانيا فى تاريخ العلاقات بين دولتين عريقتين شقيقتين، ومعها فى خلفية الديكور الدور الفرنسى السلبى فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. الفيللا كانت فى الأصل دار سكن عائلة دانيال كورييل اليهودى المصرى الإيطالى، الذى فضل فى النهاية عند إلغاء الامتيازات الأجنبية بعد توقيع اتفاقية 1936 وما تبعها من اتفاقيات على يد النحاس باشا أن يحتفظ بالجنسية المصرية فقط، الأمر الذى لم يكن شائعا عندئذ. وقد بنى دانييال كورييل الفيللا فى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بشكل عصرى يلائم ذوق زوجته زيفيرا، ثم ابنيه من بعد وهما راءول وهنرى. وكانت الزمالك قد شهدت فى مطلع عام 1904 مشروعا للدولة يقضى ببيع أراض فى الجزيرة لإقامة أحياء راقية، ومعظم الفيللات الفخمة والأنيقة الموجودة بالحى تعود لتلك الفترة، وكان يقطنها فى الأغلب الأعم أثرياء اليهود المصريون أو البرجوازية المصرية ذات الأصول الريفية التى صعدت مع دولة محمد على الحديثة فى مصر. وطلب كورييل من المعمارى الشهير وقتئذ فى القاهرة، جانسن، أن يبنى الفيللا، بحيث تصلح أن تكون دار سكن ومركز إشعاع ثقافى، حيث كانت زوجته زيفيرا تعزف البيانو وتقيم صالونا أدبيا تستقبل فيه نجوم المجتمع القاهرى فى الفن والأدب وأيضا فى السياسة. وقد ولد لدانيال ابن سماه هنرى فى 13 سبتمبر عام 1914، وهو المولود الذى سيدخل التاريخ بفضل الدور الذى لعبه فى حرب الاستقلال الجزائرية، وأيضا دوره فى تأييد القضية الفلسطينية. ففى سن الخامسة والعشرين أسس هنرى كورييل الاتحاد الديمقراطى المصرى وهى حركة شيوعية، دخل فيها أغلب أبناء الطبقة الأرستقراطية القاهرية المتعطشين لمجتمع أكثر عدلا والناقمين على مظاهر البذخ الذى تعيشه الطبقة الأرستقراطية فى مقابل بؤس وفقر مدقع يعيشه الفقراء. وفى عام 1943 أسس مع مجموعة من زملائه الحركة المصرية للتحرر الوطنى، ثم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى، وكلها منظمات شيوعية نشيطة، مما أدى بالسلطات المصرية إلى طرد هنرى كورييل من البلاد وحرمانه من الجنسية المصرية عام 1950. وغادر هنرى كورييل مصر إلى فرنسا، حيث كانت الحركات الشيوعية شديدة النشاط فى مطلع الخمسينيات إلى الحد الذى جعل الأمير الكمبودى نوردوم سيهانوك يقول: «لو أردت أن أجعل أبنائى شيوعيين أرسلتهم إلى باريس، ولو أردت أن أجعلهم مناهضين للشيوعية أرسلتهم إلى موسكو». وفى باريس انضم كورييل إلى المجموعة التى أطلق عليها «حاملو الحقائب»، وهم الفرنسيون الذين كانوا يحملون الحقائب الملغمة بالأسلحة والذخائر وأيضا الأموال للمجاهدين الجزائريين. وبالتوازى مع العمل من أجل الجزائر راح هنرى كورييل يحاول الجمع بين إسرائيليين وفلسطينيين بغرض فتح الطريق أمام حوار يفضى إلى عودة اللاجئين وإقامة دولة فلسطينية. وفى عز حرب التحرير الجزائرية كان واضحا أن هنرى كورييل كان على اتصال بأجهزة مخابرات مختلفة المشارب ومتعارضة الأهداف وهو ما يفسر اغتياله الغريب فى وضح النهار بقلب باريس بعدها بسنوات فى 4 ماية 1978، وهو اغتيال ظل غير مفهوم ولا معلوم حتى اليوم رغم الكتب التى صدرت عن هنرى كورييل فى باريس من مشاهير مثل جيل بيرو وألكسندر أدلر الذى خصص قبل عدة سنوات مقالا على صدر الصفحة الأولى من جريدة لوموند عن لغز اغتيال هنرى كورييل، فقد عاش كورييل حياته فى باريس مكرسة بشكل كامل للجزائر، ثم من وقت لآخر لزوجته المصرية اليهودية ابنة أحد تجار الموسكى روزيت التى لم ينجب منها، لكنه أنجب من أخرى تدعى روث ابنه آلان جريش رئيس تحرير لو موند ديبلوماتيك. ويروى برتو فارحى الكاتب الصحفى اليهودى المصرى المخضرم فى باريس أن جمال عبدالناصر كشف له فى منزل الضابط أحمد شوقى عن إعجابه الشديد بهنرى كورييل قائلا له: إنه نموذج لليهودى الوطنى المصرى، وأضاف عبدالناصر ضاحكا: إنه لا يدرى كيف يقوم هنرى كورييل بكل هذه الأعمال البطولية رغم أن مقاس وسطه أقل من مقاس وسط غاندى. هناك إجماع بين المعاصرين للأحداث على أن هنرى كورييل وهب بعد وفاة والديه الفيللا للثوار الجزائريين الموجودين بالقاهرة للإقامة فيها والتحرك منها، وبعد الاستقلال أصبحت الفيللا بشكل واقعى مقرا للبعثة الدبلوماسية الجزائرية، ويقول الدبلوماسى المخضرم الأخضر الإبراهيمى أن الزعيم جمال عبدالناصر هو الذى سعى لأن تكون الفيللا مقرا للسفارة، وإن كورييل كان فى غاية السعادة لذلك. وفى الحالتين، فإن هنرى كورييل كان سعيدا بأن يكون بيت أسرته مقرا للسفارة الجزائرية فى العاصمة المصرية. وقد أكدت مصادر مختلفة أن راءول كورييل الأخ الشقيق لهنرى كورييل وقد توفى فى 23 فبراير 2000 وكان يعمل مديرا لمصلحة الميداليات الوطنية فى باريس قد أبدى بعض الاعتراض إلا أنه رضخ لرغبة أخيه. ومن المؤكد أن المؤرخين لديهم الوقت والوسائل الكافية لإلقاء الضوء على قصة هذا المبنى بالعودة للوثائق الدبلوماسية والإدارية والقانونية الخاصة بالمبنى، وكذلك الوثائق فى باريس والجزائر. وفى كل الأحوال، ربما كانت صرخات المتظاهرين أمام السفارة دليلا على أشياء سيئة كثيرة أصبحت تسيطر على حياتنا، ولكنها كانت أيضا صرخات تنادى دون أن تدرى أن ننبش فى التاريخ لنعود إلى زمن كان فيه رجلا قادرا على منح فيللا فاخرة من أجل قضية وطنية وكان فيه شعب بأكمله يثور من أجل حريته يسانده فى هذه الثورة شعب عربى آخر، وكان هناك فرنسيون يخرجون فى مظاهرات تأييد لهذه الثورة. وكأن الزمن توقف فجأة عن الدوران بشكل منطقى وفى الاتجاه الصحيح!