في طريقي إلى مطروح العام قبل الماضي وخلال سيري بالطريق فوجئت بانفجار شنطة السيارة نتيجة تخمتها بمستلزمات رحلة المصيف. على الفور توقفت جانبا وعدت إلى الخلف لأفاجأ بسقوط العديد من الأشياء من بينها مجموعة كتب كنت حرصت على الإتيان بها لقراءتها. لم يهمني أي شىء سوى الكتب أخذت أجرى كالمجنون أحاول أن أوقف السيارات المارة قبل أن تأتي على بقيتها بعد أن لاحظت تلف أحدها، ولم يهدأ لي بال سوى بعد ترميمه وإصلاحه، وكان ذلك من المواقف السيئة ما جعلني في حالة ضيق طوال فترة المصيف. وإذا أخبرتك بأنني شخص كثير الترحال في السكن.. فإن ذلك لا يمكن أن يتم دون إخبارك أيضا بأنه يأتي على رأس أولوياتي في عملية «العزال» كتبي وأوراقي وملفاتي التي قد يراها الكثيرون غير ذات أهمية، وأراها أنا الدنيا وما فيها. هذان مثالان بسيطان يمكن لك بمفهوم المقارنة أن تدرك كم الفجيعة التي شعر بها أستاذنا الكبير حسنين هيكل إثر إحراق مزرعته، أو مكتبته بمعنى أصح، في برقاش. ولذلك فإنه في الظهور الأول له بعد الحادثة على قناة «سي بي سي» الأسبوع قبل الماضي بدا الرجل وكأنه ليس هو.. لقد فقد جانبا من بهائه وروحه ومرحه.. وبدت لمسة الحزن على وجهه حتى شعرت بأنه، وهو الذي يبدو دوما في قمة الشباب والحيوية - رغم عمره أطاله الله - قد كبر عشرات السنين. وبكلماته البليغة التي تحمل معنى الشعور ب «الكارثة» التوصيف الذي قد لا يستوعبه البعض، التي لحقت به يقول هيكل «لأول مرة أعرف ما معنى كلمة «شجن» أشعر أن لدى ما يضايق أكثر مما يمكن أن يعبر عنه بكلمات». حينما أسترجع ما حدث لهيكل أتذكر الحديث النبوي البليغ الذي يقول «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».. أي ينتزع عنه الإيمان لحظة إقدامه على هذا الفعل.. وعلى النحو ذاته أقول إن من ارتكب جريمة برقاش لم يكن بعقله حين أقدم على هذه الفعلة .. فلا شك أن من قاموا بهذا العمل الإجرامي، بغض النظر عن هويتهم العقائدية أو السياسية، قد تم تغييب عقلهم تماما للإقدام على حرق مزرعة - مكتبة تضم تراثا لا يخص هيكل وإنما يخص وطناً بأكمله، لا لشىء سوى ما قد يبدو مواقف سياسية لا تعجبهم أو تلقى الارتياح لديهم! أذكر – وأنا هنا أتحدث من الذاكرة وأتمنى ألا تخونني – أنني استمعت لهيكل في ندوة بمعرض الكتاب قد تكون الأخيرة له هناك منذ أكثر عشرين عاما ، راح فيها يتحدث عن أنه اشترى وثائق لأحد كتبه – حرب أكتوبر – من الولاياتالمتحدة بنحو 58 ألف دولار تقريبا بمقتضى قانون حرية المعلومات. وقتها فغرت فاهي من الدهشة.. فأي كاتب أو مؤلف أو باحث يمكن أن يقدم على مثل هذا العمل سواه! من خلال أسلوبه في الحياة الذي أفاض في شرحه في كتبه وحواراته المختلفة كنت أشعر أن وثائق مصر كلها تحت يديه، ومن خلال حديثه الأخير شعرت بشغفه باقتناء ما هو نادر منها ومن ذلك إشارته إلى ما طلبه من الراحل عبد الوهاب المسيري بالحصول على كل خطابات الخديو لإسطنبول وأوراق لمصطفى كامل.. وكذا سعيه الدؤوب للحصول على خطابات اللورد كرومر.. فضلا عن امتلاكه وثائق عن عهد ناصر والسادات وكل ما دار فى الحروب وغير ذلك. مع اعتبار الأهرام ديوانا للحياة المعاصرة في مصر منذ سنوات تساءلت ولماذا لا يتم إنشاء مؤسسة تضم تراث هيكل باعتباره ذاكرة مصر الحديثة. ويبدو أن الفكرة كانت في عقله حيث كان يعد مزرعة برقاش لتكون حسبما أشار في حديثه المشار اليه مؤسسة فكرية، وهذا أقل ما يجب تشجيعه تجاه قامة أثرت حياتنا السياسية برؤاها، بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا معها. لقد انعكس الدور الذي مثله هيكل في حياتنا في جعله محل السعي من الجميع.. فمن عجب أن تجد شخصية مثل شخصيته يحج إليها الكل من جميع الأطياف والمذاهب الفكرية والأحزاب والتيارات الثورية وغير الثورية.. فقد استقبل هيكل والتقى الرئيس الأسبق مرسي والسيسي ومبارك، فضلا بالطبع عن السادات وكذلك ناصر الذي شكل معه علاقة خاصة، وكل من يمكن أن يخطر على بالك من شخصيات ذات حيثية سواء في مصر أو في غيرها. ورغم السنين فالرجل ما زال يحافظ على توهجه.. ورغم قراره المؤسف بالتوقف عن الكتابة الذي أتصور أنه ندم عليه، فما زال لا يعدم الوسيلة التي يطل بها علينا ليشاركنا هموم الوطن. حينما أتأمل في مسيرة الأستاذ – اللقب المحبب لدراويش هيكل والذين كنت واحداً منهم حتى وقت قريب - أرى أنه جمع بين سمات شخصيتين من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ الولايات المعاصر وهما هنري كيسنجر وبرنارد لويس.. الأول من خلال موقعه كمنظّر وممارس للسياسة في الجزء الأول من حياته.. والثاني من خلال التأريخ وممارسة السياسة عن بعد في الشق الأخير من حياته رغم إصرار هيكل على نفي صفة مؤرخ عن نفسه وتأكيده على أنه ليس سوى «جورنالجي». وانطلاقا من واقعنا المصري فهيكل ليس سوى نسخة من أبي الهول ولكن معاصرة.. فهو لم يكتف بمشاهدة الأحداث على مر الزمان وإنما تخلي عن صمت الأول ومارس بفعالية دور ساهم في تغيير الأحداث ومساراتها.. كل سنة وأنت طيب يا أستاذ!