انتهت الزيارة التى قام بها الأسبوع الماضى «محمد كامل عمرو» وزير الخارجية إلى إثيوبيا واستغرقت يومين، قابل خلالها وزير الخارجية الإثيوبى «تادروس أدهانوم» بنهاية سعيدة كنهايات معظم الافلام المصرية القديمة، وأسفرت عن نتيجة لا صلة لها بأحداث الفيلم ومقدماته. وبدلا من أن يعلن الطرفان الحرب المائية بينهما، أعلن الوزير المصرى أن الزيارة نجحت فى إزالة الاحتقان فى العلاقات المصرية –الإثيوبية، وبدء خطوات العملية السياسية التى تستند إلى المبادرة المصرية التى تقضى بأن توجه القاهرة الدعوة فى وقت قريب لوزراء الموارد المالية فى إثيوبيا والسودان فضلا عن مصر، على أن يسبق ذلك اللجان الفنية لدراسة توصيات لجنة الخبراء الدوليين لتلافى أي آثار محتملة تلحق بدولتى المصب، وقال إن الطرف الإثيوبى أبلغه أن التصميمات الخاصة بالسد التى تسببت فى هذا الاحتقان لم يتم وضعها بعد، وأن مصالح مصر المائية سيتم مراعاتها عند وضع هذه التصميمات، كما تتم مراعاة ضرورات التنمية التى تحتاجها إثيوبيا، وتبادل الطرفان الاحضان فى بداية الفيلم، بينما ألغى المؤتمر الصحفى المشترك الذى كان مقررا أن يعقداه دون إبداء أسباب معقولة لهذا الإلغاء! وهكذا القت نتائج الزيارة دلوا من الماء البارد على الرؤوس المشتعلة التى ظلت لمدة عشرة أيام تتحدث عن المجاعة المائية التى ستتعرض لها مصر نتيجة إنشاء سد الألفية الإثيوبى، وبدا أن كل ما قيل فى هذا الصدد هو مجرد دخان فى الهواء. والتصريحات التى جاءت على لسان وزير الخارجية المصرى لا تجيب عن عشرات الاسئلة والوقائع التى أذاعها خبراء المياه والسدود خلال اشتعال الأزمة، بما فى ذلك ما ورد على لسان الجهات المصرية الرسمية، ومن بينها على سبيل المثال القول إن الهدف من إنشاء السد لايقتصر على توليد الكهرباء، بل ان إثيوبيا سوف تستخدم مياهه فى التوسع الزراعى، إنها تمهيداً لذلك بدأت فى إزالة آلاف الهكتارات من مناطق الغابات لزرعها، وهو ما يعنى أنها ستستخدم حصة من المياه ستؤثر بالتالى على حصة مصر من المياه التى ترد إلى مصر وتبلغ 55٫5 مليار متر مكعب ولا تكفى سوى ثلثى حاجتها من مياه الرى. فما الذى حدث وجعل وزير الخارجية يطمئن إلى أن وعود إثيوبيا بعدم استخدام مياه النيل الأزرق فى الزراعة وهو الذى يزود مصر بنحو 86% من مياه نهر النيل ستتحقق؟ وكان مما قاله رئيس الجمهورية الدكتور «محمد مرسى» نفسه، فى الاجتماع الشهير الذى حضره ممثلون لما وصفت بأنها أحزاب المعارضة، أن تأثير سد إثيوبيا على إنتاج الكهرباء من السد العالى، لن يكون ضخما ،لأن السد العالى نفسه لا ينتج من الكهرباء التى تحتاجها مصر سوى 8%، وأن هذه النسبة لن تنقص بعد تنفيذ سد إثيوبيا إلا بنسبة 15% فقط، ومعنى هذا- كما قال- إن النقص الذى يحدثه تخزين المياه أمام سد النهضة الإثيوبى فى موارد مصر من الكهرباء لن يزيد علي 1،8% وهى نسبة قدر رئيس الجمهورية بحسبة هندسية أنه يمكن تعويضها بإنشاء محطة تدار بالمازوت، فهل مازالت هذه الحسبة صحيحة؟ وهل أكدتها المباحثات التى أجراها وزير الخارجية فى أديس أبابا؟ ولو كانت صحيحة فما هو ياترى سبب المناحة التى أقامتها الإدارة حول السد الإثيوبى؟! وكان مما قيل ايضا أن البحيرة التى ستقام أمام السد ستحتاج إلى خمس سنوات حتى تمتلئ بالمياه، وأن هذا سيؤثر بالسلب على مخزون المياه فى بحيرة ناصر أمام السد العالى، مما يعرض مصر خلال هذه السنوات الخمس إلى نقص شديد فى مواردها المائية، يهدد الزراعة المصرية بالجفاف والتصحر.فهل توصلت المباحثات المصرية- الإثيوبية إلى حل لهذه المشكلة؟ أم أنه لم تكن هناك مشكلة من الأساس؟ وكان مما قيل ايضا أن تقارير اللجنة التى ضمت خبراء من مصر والسودان وإثيوبيا بالاضافة لخبراء دوليين، لم تأخذ بعين الاعتبار مخاوف الخبراء المصريين بشأن النتائج السلبية التى يمكن أن تترتب على المصالح المصرية نتيجة إنشاء السد الإثيوبى، فهل تعهدت إثيوبيا خلال مباحثات أديس أبابا بأن تضع هذه الآراء والمصالح فى اعتبارها؟ أما الأهم من هذا وذاك، فهو السبب الذى دفع الإدارة المصرية للاستخفاف بالأزمة فى بدايتها، ثم إلى التصعيد غير المنطقى لها، الذى وصل إلي ذروته في الاجتماع الذى عقده رئيس الجمهورية مع أهله وبنى عشيرته من أحزاب المعارضة، وأذيع على الهواء مباشرة دون علم معظمهم، وتبادلوا خلاله رسم الخطط الفكاهية، للقضاء على السد الإثيوبى، والتى بدت تكرارا لمشاهد من مغامرات قصص الأطفال الشيقة «الشياطين ال 13» التى أبدعها محمود سالم، وشملت فتح الجبهة العسكرية ضد إسرائيل وأمريكا، وتهديد إثيوبيا بمرور بارجة حربية مصرية عبر باب المندب، للإيحاء بأن مصر على وشك القيام بعمل عسكرى ضدها، والدعوة لتأليب الخلافات القبلية والدينية داخل إثيوبيا، وبينها وبين دول الجوار المحيطة بها، وانتهت بالمطالبة بإرسال فريق لكرة القدم يلاعب الفريق الإثيوبى على سبيل ترطيب الأجواء! هل كان الامر يتطلب كل هذه الخطط الساذجة والتافهة، والتى تفتقد لأى جدية فى مواجهة خطر التصحر الذى كان يقال إن السد الإثيوبي سيجلبه على مصر؟ أم أنه لم يكن هناك خطر على الاطلاق؟ وما الذى دفع رئيس الجمهورية لكى يدعو بعد ذلك بأيام إلى مؤتمر حاشد بقاعة المؤتمرات بمدينة مصر، لم يحضره كالعادة إلا اهله وعشيرته، لكى يلقى خطابا متشددا، يهدد فيه بأن مصر ستدافع عن كل قطرة ماء بقطرة دم!؟ الذى يقال فى الدوائر السياسية إن الادارة المصرية كان بها جناحان، الأول كان يذهب إلى أن هناك خطرا جديا على مصر من إنشاء السد الإثيوبى، الذى سيفتح الباب أمام إنشاء سدود أفريقية فى دول حوض النيل الأخرى، يهددها بمجاعة مائية لاتجد معها مياه الشرب، وبالتالى فلابد من إتخاذ اجراءات حازمة لوقف العمل فى السد، تبدأ باللجوء إلى منظمات التحكيم الدولية، وربما تصل إلى حد الحرب. أما الاتجاه الثانى أن السد الإثيوبى لايشكل خطورة كبرى على مصر، وأن آثاره السلبية عليها قليلة، وأن مصر قد تستفيد منه إذا ما دخلت فى إطار ربط كهربائى بينها وبين إثيوبيا، التى وقعت بالفعل اتفاقيات مبكرة مع عدد من الدول الأفريقية كى تبيع لها الكهرباء عند إتمام بناء السد، وان حل مشكلة المياه فى مصر يتطلب التوصل إلى اتفاقيات لتنمية حوض نهر النيل والاستفادة من مليارات الأمطار المكعبة التى تضيع على شكل بخار أو تذهب إلى مياه البحر، وبالتالى فلا مشكلة هناك تستدعى التهديد بالحرب والضرب وغيرهما من مغامرات الشياطين ال13 الشهيرة! وإذا صحت هذه التسريبات، فلا معنى للتصريحات التى أدلى بها وزير الخارجية بعد عودته من إثيوبيا، إلا أن الاتجاه الثانى هو الذي ساد، وهو أمر ممكن أن يكون طيبا، لو أنه استند إلى معلومات صحيحة، تؤكد أنه لاخطر هناك من إنشاء هذا السد على موارد مصر المائية، إذ ليس من مصلحة مصر ولا هو ممكن من الناحية العملية المحضة أن تصطنع الإدارة المصرية مشكلة إقليمية، أو أن تدخل فى صراعات مسلحة على اى جبهة، وبالذات جبهة المياه. أما إذا لم يكن الأمر كذلك وهناك خطر فعلى على حصة مصر من المياه فإن الأمر يتطلب أن يتحدث رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ووزير الرى والموارد المائية بصراحة وشفافية عن سياسة الادارة الحكومية تجاه مشكلة المياه وأن تجرى مصارحة الشعب بكل الحقائق مهما كانت مؤلمة. ويبقى بعد ذلك سؤال اللحظة الراهنة، إذا لم تكن هناك مشكلة تتعلق بسد النهضة، فما هو مبرر الضجة الكبرى التى اصطنعتها الإدارة المصرية، والاجتماعات التى عقدتها، والحشود التى جلبتها كى تصفق للرئيس وتبايعه قائدا لحرب المياه، ولغزوة إثيوبيا؟ وفى أى جب عميق ذهب القرار الذى قيل أنه سيصدر بتسمية أعضاء اللجنة العليا لمياه النيل؟ أم ان الأمر كله كان استغلالاً رخيصا لأزمة قد تكون حقيقية، للإيحاء بشعبية موهومة، ونحن على أعتاب احتجاجات 30 يونية السلمية التى تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، وحكومة قومية محايدة للاشراف عليها!