تمر السنوات والعقود وتبقى كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم ملكة الغناء المتوجة فى كل العصور. وهى بالطبع رمز الغناء والأصالة والشموخ مع مطلع عام 2023. يمر مائة عام على احتراف أم كلثوم الغناء حيث جاءت إلى مصر المحروسة 1923 بصحبة والدها المنشد الشيخ إبراهيم البلتاجى ووالدتها وشقيقها خالد وبتشجيع من الشيخ أبوالعلا محمد والموسيقار الشاب وقتها الشيخ زكريا أحمد. جاءت إلى القاهرة فى هذا التوقيت لتصحيح مسار الغناء المصرى والعربى الذى كان يعانى فى تلك الفترة من «الركاكة» وهبوط حاد فى المعانى والكلمات والإيحاءات الفاضحة. 50 عاماً على آخر حفلاتها قبل أم كلثوم كان الغناء شيئاً وأصبح بعدها شيئاً آخر تمامًا بجانب صوتها «المعجزة» كانت تتمتع بذكاء فطرى استطاعت ببراعة أن تجمع مؤلفين وملحنين عباقرة وهم بالطبع الشاعر أحمد رامى، الذى رافقها طوال مسيرتها الفنية والعبقرى محمد القصبجى والعبقرى زكريا أحمد وفى مرحلة لاحقة العملاق رياض السنباطى وقبل كل هؤلاء الشيخ أبوالعلا محمد، كان والدها الروحى ومعلمها وقدوتها. فى بداية مشوارها قدمت أغنيات مختلفة تمامًا منها. «لو كنت أسامح» «الصب تفضحه عيونى» «البعد طال» «إن حالى فى هواها عجب»، «زارنى طيفك فى المنام». «طلع الفجر ولاح» «انت المنى والطلب»، «الشك يحيى الغرام». كل هذا فى حقبة العشرينيات. وكانت أول مطربة تغنى على الهواء فى افتتاح الاذاعة المصرية يوم 31 مايو 1934، وبالطبع أثبتت أم كلثوم جدارتها. وبدأ الغناء الهابط فى الاختفاء فى وجود أيضاً موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب. غنت فى الحفل الأخير «ليلة حب والقلب يعشق» وفى حقبة الثلاثينات اقتحمت مجال السينما وقدمت أفلام «وداد»، «نشيد الأمل»، «دنانير»، «عايدة»، «سلامة». 1942. وأخيرا «فاطمة» 1947. وقدمت من خلالها العديد من الأغنيات الرائعة منها «على بلد المحبوب»، «غنى لى شوى شوى»، «عن العشاق»، «الفوازير»، «هقابله بكرة» وغيرها. تستطيع القول إن أغنية «رق الحبيب» كلمات أحمد رامى وألحان محمد القصبجى 1940 كانت بداية مرحلة جديدة لأم كلثوم. وحققت نجاحًا هائلاً كانت بحق نقلة جديدة فى الأغنية المصرية والعربية فى حقبة الأربعينيات. قدمت كوكب الشرق عشرات الأغانى الرائعة منها «الأولة فى الغرام». «أهل الهوى». «أنا فى انتظارك». «الأمل». «حبيبى يسعد أوقاته»، «سلوا كئوس الطلا»، «نهج البردة». «هلت ليالى القمر». «ياللى كان يشجيك أنينى». رفضت إلحاح زوجها بعدم غناء الوصلة الثانية شهدت حقبة الخمسينيات مرحلة توهج وعطاء غزير لأم كلثوم بالعديد من روائع الأغنيات تذكر منها على سبيل المثال «أروح لمين»، «أقولك إيه عن الشوق يا حبيبى»، «رباعيات الخيام»، «سهران لوحدى»، «مصر تتحدث عن نفسها»، «جددت حبك ليه»، «يا ظالمنى»، «قصة حبى»، «حانت الأقدار»، «والله زمان يا سلاحى»، «دليلى احتار»، «عودت عينى»، «قصة الأمس»، «ثورة الشك»، «هجرتك»، «الحب كده»، «أغار من نسمة الجنوب». «عرفت الهوى». وشهد عام 1960 عودة العلاقة الفنية بين أم كلثوم وزكريا أحمد بعد مرحلة خصام طويلة برائعة «هو صحيح الهوى غلاب» كان ذلك فى شهر يناير قبل 40 يوما من وفاة زكريا أحمد. كما شهد نفس العام بداية التعاون الفنى بينها وبين الموسيقار الشاب وقتها بليغ حمدى بأغنية «حب إيه»، كلمات عبدالوهاب محمد وبعدها بأشهر قليلة لحن لها رائعة «أنساك»، هذه الأغنية لحن مطلعها الموسيقار الراحل محمد فوزى، واستكملها بليغ حمدى الموسيقار سابق عصره. وكانت حقبة الستينيات قمة التألق لكوكب الشرق بالعديد من الأغنيات الخالدة. «كل ليلة وكل يوم» و«لسه فاكر» و«ظلمنا الحب» و«سيرة الحب» وكانت بداية تعاونها مع جواهرجى الكلمة مرسى جميل عزيز ولا ننسى «للصبر حدود» ألحان محمد الموجى. بكت على المسرح عند مقطع و«لما تجلالى بالدمع ناجيته».. وشعرت بقرب النهاية وشهد عام 1964 لقاء السحاب بين أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب بعد تدخل شخصى من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وغنت أم كلثوم «أنت عمرى» مساء الخميس 5 فبراير 1964 وحققت نجاحًا أسطوريا. تستطيع القول إن الأمة العربية بالكامل استمتعت بالأغنية وبعدها تواصل التعاون بين العملاقين فى أغنيات «أمل حياتى». «أنت الحب»، «فكرونى»، «هذه ليلتى». «أغدا ألقاك»، و«دارت الأيام»، وأخيرا ليلة حب، ولحن لها بليغ فى حقبة الستينيات «فات الميعاد»، «ألف ليلة وليلة»، «بعيد عنك»، ولا تنسى قصيدة «الأطلال» أعظم أغنية فى تاريخ الغناء العربى كلمات الدكتور إبراهيم ناجى ألحان رياض السنباطى وغنتها لأول مرة عام 1966. ولا ننسى موقفها البطولى بعد نكسة 1967 عندما قررت أن تحيى حفلات فى بلدان العالم المختلفة دعمًا للمجهود الحربى واستطاعت جلب أموال طائلة وأن يصل صوت مصر لكافة أنحاء العالم. مع مطلع السبعينيات رغم المرض وتقدم العمر واصلت أم كلثوم رحلة العطاء بروائع أخرى من الأغنيات منها «أقبل الليل»، «يا مسهرنى»، «من أجل عينيك». «الحب كله»، «ليلة حب» والتحفة الغنائية الرائعة «القلب يعشق كل جميل» تأليف بيرم التونسى ألحان رياض السنباطى. وأخيرا «حكم علينا الهوى» فى مارس 1973. يوم 4 يناير فى هذا اليوم تحديدًا مر خمسون عاما على آخر حفلات كوكب الشرق أم كلثوم بدار سينما قصر النيل مساء الخميس 4 يناير 1973 كان عمر أم كلثوم فى ذلك الوقت 75 عاما. وهى من مواليد طماي الزهايرة يوم 30 ديسمبر 1898. كانت أم كلثوم تعانى من متاعب صحية خاصة فى الكلى. وكان يتابع حالتها زوجها الدكتور حسن الحفناوى ومعه حفنة من كبار الأطباء. فى الوصلة الأولى من تلك الحفلة الخالدة غنت على مدى أكثر من ساعتين رائعة «ليلة حب» تأليف أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبدالوهاب كانت تغنيها لثانى مرة حيث غنتها لأول مرة مساء الخميس 7 ديسمبر 1972. انفعل جمهور الحفل مع أم كلثوم التى أعادت كل كوبليه أكثر من مرة بناء على رغبة جمهور الحفل رغم مرضها الشديد وكان معها عازفون جدد منهم هانى مهنى على الأورج. هذا الحفل للأسف لم يصور تليفزيونيا على الإطلاق لأسباب مجهولة. لبت أم كلثوم نداء مستمعيها ووقفت على المسرح لأكثر من ساعتين صوتها كان مرهقا للغاية ولكنها كانت ممتعة للغاية، وهى تبدع فى الغناء فى نهاية الأغنية قائلة: «جيت فى المكان ده يا حبيبى يا حبيبى ياما جينا ياما ضمتنا الليالى فى المكان نفس المكان ياما طرنا فى العلالى، والليلة دى»، ونهاية الأغنية «ومهما تأسى عليا حتحبنى بعد شوية، آخد ايديك فى اديا وأحضن عنيك فى عينية ونعيشها ليلة عمل كل عمرى عمر الدنيا»، وانفجر المسرح بالتصفيق الحاد جدا، من يستمع إليه عبر الأثير يشعر بمدى الإعجاب بصوت وروعة كوكب الشرق. بعد الوصلة الأولى دخلت غرفتها وهى فى قمة التعب والإرهاق وأصدر زوجها «الحفناوى» تعليمات مشددة بعدم دخول أى شخص غرفة الست بسبب تعبها الشديد، ونصحها بالذهاب للمنزل وإلغاء الوصلة الثانية لكنها قالت له بحدة: مستحيل ماأقدرش لازم أغنى الوصلة الثانية، ولم يستطع زوجها الدكتور الحفناوى إقناعها، وبالفعل غنت الوصلة الثانية. صعدت على المسرح وكانت فى قمة التعب والإرهاق لتبدع لآخر مرة على المسرح رائعة «القلب يعشق كل جميل» أغنية ما أروعها وشاء القدر أن تكون آخر جملة غنائية لها على المسرح «دعانى لبيته لحد باب بيته ولما تجلالى بالدمع ناجيته». تناجى ربها بكل الأحاسيس الصادقة ووصلت فى نهاية الأغنية لمرحلة تعب هائلة طلب منها الجمهور أن تعيد الغناء لكنها رفضت وأشارت بعدها كفاية، وترقرقت الدموع فى عينيها فى مشهد مؤثر للغاية وضح تماما فى مسلسل «أم كلثوم» للعظيمة صابرين. بعد نهاية هذا الحفل شعرت أم كلثوم أنها لن تستطيع الغناء مرة أخرى، ومع ذلك وبعد شهرين فقط سجلت آخر أغانيها باستديو 35 بالإذاعة «حكم علينا الهوى» وكان الإرهاق الذى أصاب صوتها العذب واضحا تماما، لكنها كانت بحق أغنية رائعة، تأليف عبدالوهاب محمد وألحان بليغ حمدى. زحف المرض على جسدها العليل وأجرت بروفات فى منزلها مع الموسيقار سيد مكاوى لأغنية «أوقاتى بتحلو معاك» لكن المرض تمكن منها تماما، ولم تستطع الغناء عقب نصر أكتوبر 1973 وصارعت المرض حتى رحيلها بمستشفى المعادى فى الرابعة والنصف عصر الاثنين 3 فبراير 1975. 48 عاما مرت على وفاتها ومازالت الملكة المتوجة على عرش الغناء المصرى والعربى، 100 عام مرت على احترافها الغناء و50 عاما مرت على آخر حفلاتها، ومع ذلك تسكن وجدان الملايين فى كل يوم يملأ صوتها كافة البلدان العربية، أغانيها تبقى سحرا لا يقارن. أم كلثوم كانت عبارة عن رحلة إبداع متكاملة تخطت ال50 عاما، أكثر من ألف أغنية، عاطفية ودينية ووطنية، اجتمع عمالقة التأليف والتلحين على جمال صوتها الذى لا يوصف. مطلوب احتفال قومى طوال هذا العام على مرور 100 عام على احتراف أم كلثوم الغناء ونصف قرن على آخر حفلاتها، نحتاج احتفالا يوميا بأم كلثوم، كوكب الشرق فى كل العصور، بعدها أصبحت للأغنية شكل وطعم آخر، دغدغت مشاعر الملايين من المحيط إلى الخليج. تمر السنوات وتبقى شامخة كالهرم قدوة لكل من يغنى، مازالت وستظل على قمة الهرم الغنائى العربى، رحم الله ملكة الغناء الحقيقى.