الزيارة القصيرة التى استغرقت نحو 24 ساعة وانتهت عصر أمس الجمعة للرئيس «محمد مرسى» إلى السودان، هى الأولى من نوعها منذ توليه السلطة أواخر يونيو من العام الماضى، وعقب زياراته لأكثر من عشر دول عربية وأفريقية وغربية, وآسيوية وبعد مرور نحو سبعة أشهر من الزيارة التى قام بها الرئيس السودانى «عمر البشير» إلى مصر فى سبتمبر الماضى. الصحف السودانية تتحدث عن ضغوط قطرية على القاهرة لإتمام تلك الزيارة التى جاءت متأخرة، بدعوة ملحة من الحكومة السودانية، بعد أن ساد العلاقة بين الحكومتين بعض الفتور بسبب ما وصف بأنه استقبال غير بروتوكولى ومنخفض التمثيل للرئيس «البشير» فى القاهرة، حيث استقبله فى المطار رئيس الوزراء «هشام قنديل» وليس رئيس الجمهورية، كما أنه تلقى إجابات غير مرضية على طلبه بإعادة إقليم حلايب للحدود السودانية، كان من بينها عدم مناسبة التوقيت خاصة بعد الاتهامات التى طالت حكومة الانقاذ الإسلامية بقبولها انفصال الجنوب، وإقامته دولة مستقلة، فضلا عن إبداء الخرطوم قلقها من فتح مكاتب فى القاهرة لممثلى الحركات السودانية المسلحة، وبطبيعة الحال فتح مكتب لحكومة جنوب السودان! المعلن من أسباب الزيارة التى ضمت حشدا ضخما من مستشارى الرئاسة وأمنها وأنصارها، ووزراء المجموعة المعنية بالشأن الاقتصادى، وجمعاً كبيراً من رجال المال والأعمال والمستثمرين، الذين أسسوا قبيل بدء الزيارة مجلسا مشتركا لرجال الأعمال المصريين والسودانيين، هو تنفيذ بعض البنود المعطلة من اتفاق الحريات الأربع،الذى كان قد عقد بين البلدين فى ظل نظام الرئيس السابق «مبارك»، ويقضى بضمان حريات التملك والتنقل والاقامة والعمل لمواطنى الدولتين، ومضاعفة حجم التبادل التجارى بينهما خلال السنوات الخمس القادمة، والذى لا يتجاوز الآن أكثر من نصف مليار دولار، والقضاء على المعوقات التشريعية الجمركية والتجارية ، التى تعترض حركة سير الصادرات والواردات بين البلدين، وبحث مساهمة شركات الاستثمار المصرى فى المشاريع الزراعية والإعمارية، والتنموية، ومواصلة النقاش حول انشاء الخط البرى بين مصر والسودان، ومناقشة امكانيات تحويل «حلايب» إلى منطقة للتكامل بين البلدين، بديلا لبقائها محلا للنزاع بينهما، بما يقدمه كل منهما من أدلة على وقوعها ضمن حدوده الجغرافية، وإخراج ملفاتها من الأدراج المغلقة، لتحقيق أهداف سياسية، والتشاور بشأن التنسيق بين الطرفين فى قضية مياه النيل، حيث رفضت الدولتان التوقيع على اتفاقية «عنتيبى» التى وقعت عليها دول منابع النيل، وتشمل أوغنداوإثيوبيا وتنزانيا وبورندى ورواندا وإريتريا وكينيا، وتطالب بتعديل الاتفاقيات السابقة الموقعة لتقاسم مياه النهر، بزعم أنها تم التوقيع عليها فى زمن الاستعمار، ولم يكن لتلك الدول أى رأى فيها، بالإضافة إلى تزايد أعداد سكانها، وخططهاالتنموية التى تحتاج إلى مياه كثيرة ، لم تعد الاتفاقيات القائمة تفى بها، هذا بالإضافة إلى بناء سد النهضة الإثيوبى، بما سوف يؤثر بالسلب على احتياجات دولتى المصب من المياه. أما ما لم يعلن من الزيارة، فهو أن كلا النظامين الحاكمين فى القاهرةوالخرطوم فى أزمة، وأنهما يسعيان إلى تصديرها للخارج، أو التعمية عليها بالضجيج الإعلامى، الذى عادة لايسفر عن شىء، حول مشاريع تنموية لصالح الشعبين، ولأن النظامين من بين أعضاء التنظيم الدولى للإخوان، الذى عقد مكتب إرشاده ، مؤتمره الأخير فى الخرطوم قبل شهور قليلة بمشاركة من جماعة الإخوان المصرية، ولأن الإخوانى المصرى للإخوانى السودانى ، كالبنيان المرصوص، فقد كان من بين أهداف الزيارة أن يتوسط الرئيس» «مرسى» لدى الدكتور» حسن الترابى» زعيم حزب المؤتمر الشعبى المعارض الذى أسسه عقب انشقاقه عن حكم الإنقاذ عام 1999، لكى يقبل بالدعوة للحوار مع حكم البشير» للتوصل إلى مصالحة وطنية، وهى الدعوة التى أطلقها النظام ، بعد أن وقع تحالف أحزاب المعارضة السودانية،الذى يضم نحو عشرين حزبا وحركة سياسية ومسلحة فى ديسمبر الماضى فى العاصمة الأوغندية كمبالا على ميثاق «الفجر الجديد» الذى انطوى على اتفاق المعارضة، وبين حزب «الترابى» على العمل المشترك بهدف إسقاط نظام «البشير» بالطرق السلمية والعسكرية. وواجهت حكومة البشير هذا التطور فى عمل المعارضة، باعتقال قادتها الذين شاركوا فى هذا الاجتماع، وإعلان نيتها فى الصحف التابعة لها، عن نية مجلس شئون الأحزاب حل أحزاب المعارضة التى وقعت على هذا الميثاق. استبق الرئيس السودانى دعوة المعارضة للقيام باعتصام مفتوح فى انحاء المدن السودانية للمطالبة بالإفراج عن قادتها وكل المعتقلين السياسيين، فأفرج عنهم قبيل 24 ساعة من الموعد المحدد للاعتصام، كما دعا كل أطياف المعارضة من الأحزاب السياسية والقوى المسلحة لحوار مع الرئاسة، والمشاركة فى صياغة دستور جديد للبلاد، وهى الدعوة التى تلقفتها المعارضة بارتياب، واعتبرتها سعيا حكوميا لتفكيك وحدة المعارضة التى التأمت فى كمبالا، ومدا فى عمر نظام محاصر برتل من الازمات التى صنعها بسياسته الفاشلة والفاسدة، التى عمقت الفوارق الاجتماعية بين المواطنين، ورسخت الروح الجهوية والقبلية، وبددت موارد البلاد، وأفقرت شعبه، بنهب المال العام وسوء إدارة الدولة وانتهكت الحريات العامة والخاصة، وحاصرت النشاط الحزبى، لتحول بينه وبين أن يكون بديلا فى أى لحظة لحكم البلاد، ولاحقت الإعلاميين بالاعتقال واغلاق الصحف، وتهديد الصحفيين وقتلهم، وتدهورت الخدمات العامة، وانطلقت بسرعة الصاروخ لخصخصة الممتلكات العامة لصالح الأقرباء والمناصرين والمؤيدين بالمحسوبية والرشاوى. المعارضة السودانية فى المقابل تعتبر أن أى حوار لابد أن يستند إلى تفكيك قاعدة هذا النظام الفاشل، بحكومة قومية انتقالية، تشرف على صياغة الدستور الجديد، وعلى انتخابات حرة وتطلق الحريات العامة، وتعيد الاحترام لدولة القانون وتقود مشروعا للتنمية يعتمد على القدرات الذاتية ويكتسب ثقة القوى السياسية والمواطنين، بعد أن اكتفى نظام الإنقاذ فى تسيير شئون البلاد، بالاعتماد على الأدعية فى الصلوات، والابتهالات فى المساجد! بعد نحو ربع قرن من حكم جبهة الإنقاذ المنسوب للمشروع الاسلامى، أصبح السودان دولتين إحداهما فى الشمال، والأخرى فى الجنوب، واندلع النزاع المسلح فى الغرب والوسط والشرق، بما يهدد أن يصبح أربع دول، وخسر السودان بسبب ذلك نحو300 ألف قتيل، ووصل عدد اللاجئين والنازحين إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن يعيشون فى أبشع الظروف الانسانية، فضلا عن البؤس والعوز والفقر الذى يعيش فيه أكثر من نصف سكان البلاد، وتم تدويل النزاع على الحدود مع الجنوب،و لوحق الجيش بتكرار اعتقال عدد من كبار ضباطه، وتلفيق التهم لهم بتدبير محاولات انقلاب على الحكم ،الذى جاء أصلا بانقلاب عسكرى، والإقدام على إعدام بعضهم ، وتجرى ملاحقة رئيس الدولة هو وعدد من كبار مسئوليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بتهم جرائم ضد الإنسانية، وأبادة جماعية، وتهجير قسرى للسكان، وامتناعهم عن السفر إلى عدد من الدول التى تعهدت بتسليمهم للعدالة الدولية إذا دخلوا أراضيها.تلك هى عاقبة الاستبدادعموما، والاستبداد باسم الدين خصوصا، التى أتمنى أن يتمعن الرئيس «محمد مرسى» فى دروسها، بعد أن أنهى زيارته القصيرة إلى السودان.