(سى السيد) فى الطاحونة.. و«قلب الطاحونة حجر»! «الدنيا سكة سفر ولكل حى أوان» (حارة السقّايين - 1930) فى تلك الحارة الشعبية الصغيرة بوسط العاصمة، وداخل شقة متواضعة، تعيش أسرة متوسطة الحال، حيث يجلس الآن طفلها الصغير فى صمت ودهشة وبلاهة. بعدما داهمه الحزن، والغم، والهم، وأدخله فى متاهة، كلما توقع- ومعه أفراد أسرته ما ستحمله له الأيام القادمة من أحزان ونسيان، فى قلب طاحونة الزمن التى تطحن الإنسان أى إنسان إذا ما شاء قدره، وانقضى أمره، ومات أبوه، وهو ما زال طفلاً صغيراً. فى هذا الصباح الحار الحزين فوجئ الطفل بموت أبيه الذى رأى فيه شخصية السيد أحمد عبدالجواد (سى السيد) الشهيرة والذى جاء موته بصورة مفاجئة، ومباغتة، ومحزنة، ومؤلمة للجميع! أمامه الآن يرى أمه (أمه التى رأى فيها شخصية الست أمينة) وهى جالسة على مقاعد صالون قديم تستقبل وتودع المعزين من أهل الحارة البسطاء فى صبر وثبات قدر استطاعتها، وهو ينظر لها فى عطف وحنان وخوف. بعد قليل تركت مكانها وتحركت ناحيته وعندما لمحها فى طريقها إليه، انهمرت دموعه على خديه. بعد خطوات اقتربت قائلة: «أبوك مات يا يحيى» نظر لها دون رد! ثم أكملت باكية: «أنت من الآن راجل البيت يا يحيى» نظر لها دون رد! ثم التفت فى صمت موحش ناحية صورة لأبيه معلقةً بالقرب من باب الشقة قبل أن يرتمى فى حضنها باكياً بحرارة ومرارة لا تخطئها عين. بعد لحظات صمت قالت: «لازم تكمل دراستك وتصبح أفندى زى ما أبوك كان عايز.. فاهم يا يحيى.. فاهم يا نينه! كانت هذه الأم هى زوجة حسن أفندى شاهين. وكان هذا الابن هو الطفل يحيى حسن شاهين (اسم الشهرة يحيى شاهين) وكان هذا الصباح فى صيف عام 1930 عندما مات أبوه وعمره 12 سنة، ليموت هو نفسه أى الفنان يحيى شاهين عام 1994 ويترك للحياة طفلته الصغيرة داليا وعمرها يوم موته كان 12 سنة أيضاً! وكأن طاحونة الحياة (الطاحونة اسم مسلسل درامى شهير لعب بطولته عام 1983) مازالت تواصل دورانها، وطحنها رغم اختلاف الزمن، وتعدد المحن، فى طحن قلوب البشر، أزمان وراء أزمان، وأعمار وراء أعمار، وأشكال على ألوان! «قلب الطاحونة حجر قلب الزمن صوان يطحن قلوب البشر أشكال على ألوان» (القاهرة 1930) فى هذا العام كان إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء (ووزير المالية والداخلية فى ذات الوقت) قد انتهى من وضع دستورٍ جديدٍ للبلاد بعدما عطل دستور 1923، معتبرًا أن مصر «بلد لم ينضج بعد النضوج الكافى ولم يتعود التفكير الذاتي» وبعد شهور من ذلك نجح فى إنهاء الصراع الملكى ما بين الخديو عباس حلمى الثانى وعمه الملك فؤاد الذى جاء مكانه بعدما خلعه الإنجليز فى صيف 1914، ولقد استطاع إسماعيل صدقى أن يجعل الخديو عباس يتنازل عن العرش لعمه فؤاد مقابل 30 ألف جنيه مصرى سنويًا (الجنيه المصرى حينذاك كانت قيمته تساوى ما بين 7 10 دولارات تقريباً) كراتب سنوى يعيش به فى سويسرا التى استقر بها أمره. أما أسرة حسن أفندى شاهين فكانت فى حيرة شديدة من أمرها عندما لم تجد من يتدخل ليحل لها أزمتها المعيشية الطارئة التى ألمت بها بعد رحيل الأب، الذى تركها بلا مال أو أعمال تدر عليها دخلاً شهريًا أو حتى سنويًا يعينها على الحياة وتستطيع أن تدفع منه المصاريف السنوية لطفلها يحيى ليكمل دراسته فى مراحلها الأولى فى مدرسة عابدين الابتدائية. «زمن وفيه العجب بيدى من غير سبب ويلم ويفرق وينجى ويغرق» (مكتب وزير المعارف بعد أسبوع) وبعد رحلة بحث وشقاء وعناء استطاعت الأم بصبرها وإصرارها الوصول إلى مكتب السيد وكيل وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) وشرحت له الموضوع، فتحمس الرجل إلى ابنها المتفوق ودخل معها والطفل فى يدها إلى السيد معالى الوزير: - يا يحيى.. أنت تلميذ متفوق وسوف نمنحك تعليمًا مجانيًا. - هز يحيى رأسه صامتًا. - وحتى تستفيد من هذه المنحة عليك أن تتفوق سنويًا (فاهم يا يحيى؟). - فاهم يا سعادة الباشا.. ربنا يخليك لينا يا باشا.. اسكتى يا ست.. أنا أتكلم الآن مع الراجل الذى يقف أمامى الآن (يقصد الطفل يحيى) قالها الباشا وهو يبتسم فيما رد يحيى عليه بنفس الابتسامة قبل أن يشير إليهما مدير المكتب قائلاً: «خلاص يا يحيى.. اتفضلى يا هانم.. الزيارة انتهت» وبالفعل خرجت الأم سعيدة، ومعها طفلها الذى وعدها بالتفوق الدائم حتى يستطيع استكمال دراسته بتلك المنحة التى حصل عليها والتى قد لا تتكرر! وسنة بعد سنة استمر فى تفوقه الدراسى المبهر حتى انتهى من إتمام الشهادة الثانوية (دبلوم صناعة النسيج) بتفوق مذهل أهله للالتحاق بمصانع النسيج بصفته من الأوائل فى مدينة المحلة الكبرى (تبعد عن القاهرة 140 كم) وبعدما وافق مدير بنك مصر حيث كانت المصانع إحدى الشركات التى أسسها طلعت باشا حرب على تعيينه فورًا نظرًا لتفوقه الدراسى. «موال كفر السواقي يروى عيون البراوي ويقرب الخطاوي يغسل توب الصبية يدندش الطواقي» (القاهرة 1935) داخل مكتب مدير البنك وكان اسمه عبدالله فكرى أباظة جلس الشاب يحيى وفى يده خطاب البنك الذى جاء له عن طريق البريد للعمل كمهندس فى مدينة المحلة الكبرى. يحيى: «معلهش يا عبدالله بيه لن أستطيع السفر خارج القاهرة! رد المدير: «لماذا؟ قال: «لأن والدتى مريضة ومن المستحيل السفر بعيدًا عنها» فى هذه اللحظة كان يجلس بالمكتب بالصدفة فنان اسمه (أدمون تويما) وكان مديرًا للفرقة القومية المسرحية. انتظر بعدما انتهى الحديث بينهما ثم نظر له قائلاً: حضرتك ممثل؟ رد: «لا.. لكننى أحب التمثيل وتدربت مع بشارة أفندى واكيم فى فرقة المدرسة المسرحية. تحب تشتغل فى التمثيل؟ طبعًا»! ومن هنا انطلق يحيى شاهين وغير طريق حياته من مهندس فى مصنع للنسيج إلى نجم من نجوم المسرح والسينما المصرية لسنوات طويلة، حيث تنقل للعمل ما بين فرق الهواة المسرحية، ثم فرقة نجيب الريحانى وفرقة فاطمة رشدى، ثم تحول إلى السينما بعدما اختارته أم كلثوم ليشاركها بطولة فيلم (سلامة) عام 1943، ومن هذا الفيلم وقع اختيار نجيب محفوظ عليه ليختاره- بعد سنوات- لبطولة فيلم «بين القصرين» ويقدم فيه الشخصية الأسطورية «سى السيد» فى ثلاثية السينما المصرية الشهيرة. «آه.. يا حجر داير آه.. طول ما القدوس فاير» (القاهرة 1955) فى هذا العام بدأ يفكر يحيى شاهين فى الزواج الذى تأخر عنه كثيرًا بسبب حبه الشديد لأمه التى رفض تركها وحيدة وبعيدة عنه حتى بعدما أصبح نجمًا مشهورًا. أمه التى حرصت على تعليمه رغم رحيل أبيه المبكر ورفضها الزواج من أجله، كل ذلك جعله شديد الحرص عليها مثلما كانت حريصة عليه. لذلك قال: «رفضت الزواج من أجلها رغم إلحاحها الشديد علىّ.. وتعودت ألا أسهر خارج البيت من أجلها. وكنت أصفح عن الذين يسيئون لى من أجلها. وتعلمت أن أكون ناجحًا وقويًا وصبورًا من أجلها. فلقد أعطتنى كل شيء. أعطتنى الحكمة، والحنان، والحب، والأمان، وعلمتنى كيف أسير معتدلًا وهادئًا فى الحياة» وبعد رحيلها قرر الزواج غير أن الرجل الذى كان يحسده كل الرجال بسبب شخصية (سى السيد) وعلاقته بزوجته (الست أمينة) فشل زواجه الأول فشلاً ذريعًا، حيث لم يستمر سوى أعوامٍ قليلة بعدها حدث الانفصال. هذه الزوجة كانت قد تعرف عليها فى نهاية الأربعينيات (رغم أنها كانت أجنبية من المجر ولديها طفلان من زواج سابق) فإنه تزوجها، وأنجب منها طفلتين ثم دبت الخلافات بضراوة لاختلاف الفكر وعدم التفاهم بينهما (وهى نهاية متوقعة بالطبع) فقررت الزوجة- بعد طلاقها- أخذ الطفلتين والفرار بهما إلى خارج مصر دون أن يعرف مكانهما لسنوات طويلة. وبسبب ذلك عاش عدة سنوات بدون زواج، وفى حالة اكتئاب شديدة! هذه النهاية الدرامية المؤسفة تكاد تكون متوقعة من شخصية الإنسان- قبل الفنان- يحيى شاهين التى فيها الكثير من شخصية السيد أحمد عبدالجواد (سى السيد) خاصة عندما نراه معجبًا به قائلاً: «أعجبنى فى أحمد عبدالجواد حرصه الشديد على التقاليد والأصول، وحبه الشديد لبيته وأولاده.. فهو كان رجلاً طيبًا ومحبوبًا من جيرانه ومعارفه» ثم يدافع عنه قائلاً: «السيد أحمد عبدالجواد لم يكن ديكتاتورًا! (إنى أعجب وهيهات أن ينتهى لى العجب كيف أقدمت على فعلتك»!! ثم يعلنها للست أمينة واضحة قاطعة بعدما خرجت من البيت فى غيابه: «ليس عندى إلّا كلمة، واحدة! غادرى بيتى بلا توانِ» أما عن تحفظ البعض على منهج سى السيد فى الحياة القائم على نظرية: (ساعة لقلبك وساعة لربك) يرد قائلاً: «هذه كانت حالة المجتمع المصرى فى ذلك العصر» ثم يضيف: «اليوم الصورة تغيرت والبيت المصرى فى حاجة شديدة للحزم مع الأولاد لأن هناك تدميرًا يحدث لقيمنا وعاداتنا» إذن نجحت شخصية السيد أحمد عبدالجواد على الشاشة لكنها على الأقل فى الزيجة الأولى فشلت فى الواقع! وكذلك صاحبه الفشل فى فرض قوته، وجبروته، فى الدراما التليفزيونية عندما لعب دور (الحاج رواش) فى مسلسل الطاحونة، وسمح لفتاة صغيرة اسمها هانم (لعبت دورها عزيزة راشد) ابنة حلاق القرية فى أن تلعب به وهو فى خريف العمر! وكأن الزوجة المجرية فى الواقع و(هانم) فى مسلسل الطاحونة أراد- دون اتفاق مشترك بينهما- رد الاعتبار للست أمينة وما عاشته وعانته من جبروت سى السيد! (أنتِ خرجت من البيت من غير إذنى يا أمينة)؟! «موال كفر السواقي داير مع السواقي ويدور الطاحونة واللى يدور يلاقي» (القاهرة 1960) ومضت الحياة كما هى حيث عاش سنوات بلا زوجة، ولا يعرف مصير بناته، ولا أين تعيشان بعيدًا عنه. ولذلك قضى حياته لا يؤمن بالحب ولا بالمرأة كزوجة إلا إذا عاملت زوجها كطفل! كان يقول: «إذا أخلصت المرأة فهى ملاك طاهر.. وإذا تآمرت فهى الجحيم فى الدنيا» والزواج- من وجهة نظره- لا ينجح بالحب «لا يوجد حب أصلاَ» ولكنه ينجح بالعقل والتفاهم! وبهذه النظرية (المستمدة من شخصية السيد أحمد عبدالجواد) ابتعد فترة ليست قليلة عن الوسط الفنى والاجتماعى، وكأنه كان يعاتب الزمن الذى جعل (سى السيد) السينما المصرية والعربية فى هذا الوضع الأسرى المحزن لكنه ونظرًا لتركيبته القوية والعنيدة حافظ على تماسكه وركز كل طاقته فى العمل الذى واصل فيه اشتراكه فى روائع خالدة للسينما المصرية منها أفلام (شيء من الخوف) (والإخوة الأعداء) و(شىء من العذاب) وغيرها من الأعمال المتميزة إلى أن قرر العودة إلى «عش الزوجية» وتزوج من السيدة شيماء عبدالمنعم التى رزق منها بالابنة داليا التى كان عمرها 12 عامًا عندما رحل فى 18 مارس 1994. «ينده ع الفجر يطلع ينده ع الحب يرجع ده اللى بيزرع بيجمع والخير هو اللى باقي» (الجيزة 1994) كانت الليلة هى ليلة الخميس الموافق 17 مارس من ذلك العام عندما عاد من الإسكندرية لحضور فرح فى أحد فنادق القاهرة الكبرى، وبعد الانتهاء من واجب التهنئة طلب من زوجته شيماء وابنته داليا البقاء فى القاهرة وعدم العودة إلى الإسكندرية.. وقد كان!. فى اليوم التالى (الجمعة) قام من نومه بصورة طبيعية ثم توجه إلى مسجد الدكتور مصطفى محمود بشارع جامعة الدول العربية (حى المهندسين) لأداء الصلاة التى ما أن فرغ منها حتى عاد إلى البيت لتناول وجبة الغداء. وما بين الساعة الخامسة والسابعة من مساء ذلك اليوم شعر بألم- تحول إلى حاد- فى صدره لم يستغرق طويلاً، وقبل وصول سيارة الإسعاف كان قد أسلم الروح إلى خالقها فى هدوء تام بعد مشوار حياة قال عنه: «أنا حفرت الأرض بأظافرى.. ومن دمى رويت السينما».. لتبقى السيرة.. وتستمر المسيرة. الأحداث حقيقة.. والسيناريو من خيال الكاتب. البورتريه: بريشة الفنان سامى أمين. الشعر الغنائى المصاحب للكتابة للشاعر الراحل عبدالسلام أمين المصادر: كتاب: (مذكراتى) بقلم إسماعيل صدقى باشا طبعة دار الهلال 1950 بين القصرين نجيب محفوظ الطبعة السابعة دار مصر للطباعة 1970 السكرية نجيب محفوظ طبعة مكتبة دار مصر 1985 قصر الشوق دار الشروق طبعة 2006 الصحف: الأهرام الوفد الأخبار. المجلات: الإذاعة والتليفزيون / آخر ساعة / الكواكب.