أكتب والقلب مجهد، الأعصاب كالوتر المشدود، الرؤيا غائمة، اختلط نبل الأشياء بقبحها، بعد أن صار الوطن شبه وطن، والساسة أشباه ساسة، وقصة الأمس السليب نعايش تكرارها ومرارها مع مستقبل أكثر غموضا ورعبا، وقد تبدلت الأدوار، صار السجين سجانا، وحراس الأم.. مصر قتلتها، شيوخ الدين.. زهاد الدنيا صاروا عشاقا لزهوتها، واللصوص سادتها، والسدنة قادتها، تحول المواطن الى مخبر وقاض وجلاد، يأخذ حقه بيده فى غياب الشرطة، يقتل ويصلب فى غياب دولة القانون بأمر غير مباشر من النائب العام الذى أعطاه حق الضبطية كما حدث فى الغربية، وسيحدث فى كل مكان بمصر، حتى يفرح الرئيس باختياره لمن ولاه على أمر النيابات. فيما دماء الثائرين على الظلم المطالبين بالحرية والعدل تنسال فى كل مكان، بلا أدنى ثمن، تسيل على أرض الوطن والحكومة فى واد والشعب فى واد آخر، فحق للربيع أن يترددا، ألا يعجل بالمجيء، فما عاد الربيع عربيا ولا ثوريا نقيا، فبم سيسقى الربيع أشجاره، من دماء الضحايا، أم من دموع الثكالى من الأرامل والأيتام والأمهات الجريحات، جاء الربيع أكثر اختلافا، قاتما على غير العادة، حاملا رائحة للموت لا عطورا، فزاد الألم إيلاما، وعمق الجرح أغوارا، جرح ما نحن فيه من تقسم وتقزم وتشرذم، وجرح ذكراها الذى يطاردنى بقسوة كلما جاء هذا اليوم.. يوم عيدها غدا.. أمى، يمزقنى الشوق لحضنها، تبعثرنى الحاجة لحكمتها لألتمس قبسا من صبرها، أرقبهم وهم يحملون الزهور وأوراق الهدايا اللامعة، أشعر بمرارة فى حلقى، أبكى وأشواك زهرتى تدمى قلبى، لمن أهدى زهرتى وقد رحلت أمى. كنت فى رحلة اغترابى بهولندا عام 95، حين جاءنى نبأ إصابتها بالجلطة للمرة الثانية، كانت تصلى الفجر، وأطالت السجود، وكانت بداية النهاية، كنت قد رأيتها آخر مرة منذ ثمانية أشهر، زارتنى لتباشر دورها مع ميلاد طفلى الأول «باسل»، وحملت لى معها «حمص وملبس»، وأصرت ان تقيم طقوس «السبوع» التى لا يعرفها أحد فى هذا البلد الثلجى، لا أعرف حتى الآن كيف حصلت على تذكرة سفر، وكيف حشوت حقيبة ملابسى، كنت فى غيبوبة من الألم والذكريات، أدعو الله وأنا بين السماء والأرض بأن يبقيها لى ولو لحظة، وحين وصلت.. كان بيتنا بالقاهرة فارغا وكئيبا، كل ركن فيه بارد ومظلم، رائحة الخبز والطبخ والتوابل تبدلت برائحة الموت، حل الصمت وقد خلت الأركان من رجع صوتها الحنون، قال الجيران إنهم حملوها فى سيارة خاصة لتدفن فى سوهاج بلدة أبى، وكانت رحلة من أطول رحلات عمرى، والقطار يقطع بى سبع ساعات فقط لأرى قبرها الذى اختطفها منى قبل وداعها.. ما أعجب الإنسان وأضعفه. كبرت، وسافرت.. فارقتها، وبداخلى طفل يرفض أى فكرة لرحيلها، كيف يمكن للأم أن تموت، هل يختفى الهرم الأكبر، أو تختفى أهم قطعة من أرض مصر، هكذا كنت أراها، راسخة كالجبل، قوية كفرسان الحروب رغم رقتها، صامدة كشجرة السنديان فى قلب الريح، كان يطلقون عليها فى الصعيد «البحراوية» فهى ابنة الاسماعيلية، تربية المدارس الفرنسية وابنة الشيخ «محمد» الهندى الأصل الذى جاء لمصر للتجارة، فأحب جدتى وتزوجها رغم تحفظات العائلة، وكررت امى القصة مع الفارق، تزوجت بمفتش السكة الحديد الذى يجوب مدن مصر، واعترض الأهل على سفرها معه لبلدته، لكنها قالت: «بلدى مع زوجى»، وغادرت ڤيلا العائلة بالحى الأفرنجى الى بيت زوجها بالصعيد، فحرموها من الميراث. لا أعلم حتي الآن كيف صمدت تلك الرقيقة الجميلة المدللة المحاصرة بانتقادات اهل الصعيد، ونجحت فى تربية سبعة ابناء حتى حصلوا على تعليمهم الجامعى براتب أبى البسيط، كيف قبعت الساعات الطوال على «طست» الغسيل، واحمرت عيناها العسليتين امام نيران الفرن البلدى على سطح المنزل لتخبز لنا، وتطبخ فوق رماد الفرن المتأجج، فى أواخر الشهر كنا نخجل من طلب المصروف، فتبادر وتعطينا القروش القليلة - كبيرة القيمة حينها - وهى تقول: «ماتخافوش امكم معاها كنز مخبياه» وتشير الى صدرها حيث تحتفظ بكيس نقودها ذي الجلد الأسود الذى يحمل رائحتها، وكنا نصدق، ولم نتصور يوما أن هذا الكيس يمكن أن يخلو من الكنز المزعوم، وحين ماتت، اكتشفنا ان الكنز كان القناعة بصدرها والثقة فى الله الرازق، الكنز كان قلبها الذى منحنا الأمان وعدم الخوف من الغد حتى لو خلا الجيب من كل مال. غرست أظافرى بجدران قبرها أستنطقه أن يكشفها لى ولو لحظة.. لكن أو يشعر الحجر، منذ هذا اليوم وأنا أبحث عنها فى وجوه كل الأمهات الطيبات الصابرات من ذلك الزمن الجميل، أترحم عليها وأنا أقارن رغما عنى بينها وبين أمهات هذا الجيل..اللهم ارحم أمى وكل الأمهات مثلها جزاء بما صبرن، فى زمن انتشرت فيه أشباه الامهات وأشباه الزوجات فى وطن صار الان مهددا بالضياع والانقسام، وطن يغلى بالغضب كالبركان بفعل لعنة الإخوان.