كلما جاء هذا اليوم، أرقبهم وهم يحملون الزهور وأوراق الهدايا اللامعة، أشعر بمرارة فى حلقى وألم يعتصرنى، أبكى وأشواك زهرتى تدمى قلبى، لمن أهدى زهرتى وقد رحلت أمى. كنت فى رحلة اغترابى بهولندا عام 95، حين جاءنى نبأ إصابتها بالجلطة للمرة الثانية، كانت تصلى الفجر، وأطالت السجود، وكانت بداية النهاية، كنت قد رأيتها آخر مرة منذ ثمانية أشهر، زارتنى لتباشر دورها مع ميلاد طفلى الأول "باسل"، وحملت لى معها "حمص وملبس"، وأصرت أن تقيم طقوس "السبوع" التى لا يعرفها أحد فى هذا البلد الثلجى. لا أعرف حتى الآن كيف حصلت على تذكرة سفر، وكيف حشوت حقيبة ملابسى، كنت فى غيبوبة من الألم والذكريات، أدعو الله وأنا بين السماء والأرض بأن يبقيها لى ولو لحظة، وحين وصلت.. كان بيتنا بالقاهرة فارغا وكئيبا، كل ركن فيه بارد ومظلم، رائحة الخبز والطبخ والتوابل تبدلت برائحة الموت، قال الجيران إنهم حملوها فى سيارة خاصة لتدفن فى سوهاج بلدة أبى، وكانت رحلة من أطول رحلات عمرى، والقطار يقطع بى سبع ساعات فقط لأرى قبرها الذى اختطفها منى قبل وداعها.. ما أعجب الإنسان وأضعفه. كبرت، وسافرت.. فارقتها، وبداخلى طفل يرفض أى فكرة لرحيلها، كيف يمكن للأم أن تموت، هل يختفى الهرم الأكبر، أو تختفى أهم قطعة من أرض مصر، هكذا كنت أراها، راسخة كالجبل، قوية كفرسان الحروب رغم رقتها، صامدة كشجرة السنديان فى قلب الريح، كانوا يطلقون عليها فى الصعيد "البحراوية"، فهى ابنة الإسماعيلية، تربية المدارس الفرنسية وسليلة الشيخ "محمد" الهندى الأصل الذى جاء لمصر للتجارة، فأحب جدتى وتزوجها رغم تحفظات العائلة، وكررت أمى القصة مع الفارق، تزوجت بمفتش السكة الحديد الذى يجوب مدن مصر تلبية لمهام عمله، واعترض الأهل على سفرها معه لبلدته، لكنها قالت "بلدى هى بلد زوجى"، فحرموها من الميراث. لا أعلم للآن كيف صمدت تلك الرقيقة الجميلة المدللة المحاصرة بانتقادات أهل الصعيد، ونجحت فى تربية سبعة أبناء حتى حصلوا على تعليمهم الجامعى براتب أبى البسيط، كيف قبعت الساعات الطوال على "طشت" الغسيل، واحمرت عيناها العسليتين أمام نيران الفرن البلدى على سطح المنزل لتخبز لنا، وتطبخ فوق رماد الفرن المتأجج "حلة المحشى"، فى أواخر الشهر كنا نخجل ولا نطلب مصروف الجيب، فتبادر وتعطينا القروش القليلة - كبيرة القيمة حينها - وهى تقول "ماتخافوش أمكم معاها كنز مخبياه"، وتشير إلى صدرها حيث تحتفظ بكيس نقودها ذو الجلد الأسود الذى يحمل رائحتها، وكنا نصدق، ولم نتصور يوما أن هذا الكيس يمكن أن يخلو من الكنز المزعوم، وحين ماتت، اكتشفنا أن الكنز كان القناعة بصدرها والثقة فى الله الرازق، الكنز كان قلبها الذى منحنا الأمان وعدم الخوف من الغد حتى لو خلا الجيب من كل مال. غرست أظافرى بجدران قبرها أستنطقه أن يكشفها لى ولو لحظة.. لكن أوَ يشعر الحجر؟، منذ هذا اليوم وأنا أبحث عنها فى وجوه كل الأمهات الطيبات الصابرات من ذلك الزمن الجميل، أترحم عليها وأنا أسمع قصص زوجات اليوم، من تطلب الطلاق لأنها لن تسكن بجانب أسرتها، ومن تطلب الطلاق لأنها لم تسافر رحلة مصيف، ومن تحرق نفسها بسبب كحك العيد، وغيرها من أسباب تافهة هدمت أسرًا حديثة وقوضت أركان البيوت.. اللهم ارحم أمى وكل الأمهات مثلها جزاءً بما صبروا، فى زمن انتشرت فيه أشباه الأمهات.