قرأت في جريدة «الوفد» أمس تحقيقاً وافياً عما كان عنوانه «مؤامرة علي ذاكرة مصر»، جري فيه الحوار مع أطرافه ومحرر التحقيق زميلنا أحمد أبو حجر، حول أحوال كيفية الحفاظ علي ما نملكه من الذخائر التاريخية ومستودعها دار الكتب والوثائق القومية، وكذلك حوار مع مدير عام الدار الذي ألقي الضوء علي الوسائل التي تحمي الدار ومقتنياتها بنظام حديث أشرفت عليه وضعه وتنفيذه أجهزة الأمن القومي المصري، ولست أجد حاجة بي لاستعراض ما احتواه التحقيق المنشور والحوار الملحق به مع مدير عام دار الوثائق لأن هذا لن يضيف إلي المنشور بل ويصبح نقلاً أو تلخيصاً لا يغني عن قراءة الموضوعين المستفيضين، لكنني أقرر هنا أن ما تملكه مصر من نفائس ذاكرتها التاريخية التي تخصها قد تعرض ليس للإتلاف والإهمال والتفريط في بعضه، بل تعرض الكثير منه لنشاط نهب منظم في «تعاون مخلص» بين البعض من أصحاب الذمم الخربة العاملين في مجال حفظ الوثائق والمخطوطات، والذين بوسعهم أن يدفعوا ثمناً يراه الذين يبيعون به التراث «عادلاً»، في حين أن المبيع ذاته لا يقدر بثمن!، وبوسعي أن نهب هذا التراث ونزحه بعيداً عن مصر قد عرف طريقه إلي كثير من الذين يحبون اقتناء كل ما هو تاريخي وثمين! وذلك توطئة للمتاجرة به، أو للحفاظ عليه في حوزتهم مدي الحياة!، وتوريثه لأعقابهم من الأولاد والأحفاد، ولم يكن الأمر في هذا النهب يقتصر علي الأجانب من الأوروبيين والأمريكيين والإسرائيليين، بل ينضم إلي هؤلاء بعض من الهواة والمسئولين في بعض الدول العربية الشقيقة!، وهؤلاء وأولئك لم يعدموا الوسيلة في الحصول علي كثير من النفائس المصرية من الوثائق والمخطوطات والكتب النادرة، وبعض هؤلاء جميعاً لديهم ثبت بما تملكه دار الكتب والوثائق القومية!، ويعرفون الطريق إلي بعض العاملين من ضعاف النفوس في هذا المجال فيحصلون علي ما يريدونه بأثمان «مخجلة» لأي ذاكرة وطنية!، وقد شاهدت واطلعت علي بعض من هذه وعليها أختام الدار وتواريخ إضافتها من مكتبات أهديت إليها، وجهات مصرية ألزمها القانون بالإيداع في دار الكتب!، وكنت أخجل أمام من يطلعني عليها لأنني أجد نفسي أمام بينة علي التفريط الإجرامي، والإهمال الجسيم!. وهكذا أجري الأمر في كل ما يتصل بذاكرة مصر!، أصول غنائية وموسيقية مكتوبة، ومعظم الذاكرة المصرية من أفلام السينما والأفلام التسجيلية، ومن يتابع ما يخص هذا الشق التاريخي هي شاشة تليفزيون مصر بسهولة ولا شك هذا الفقر المدقع الذي تعانيه شاشتنا المصرية في المواد الفيلمية والصوتية التاريخية المصرية!، في حين تتباهي بعض البرامج والقنوات العربية بما تملكه من التراث النادر من هذه المواد!، وهي صالحة للعرض في برامج متميزة تجبر أي مشاهد علي متابعتها بعيداً عن تليفزيون مصر، والذي يكرر ما يملكه- وهو نذر يسير- من هذه المواد مما يثير السأم والضيق!، وكلما انفجر حديث حول حادثة اختفاء شيء من تراثنا النادر، ثارت تحقيقات وتصريحات هدفها التعتيم علي الوقائع دون أن نصل إلي الذين وراء هذا الاختفاء!، هكذا كان ما حدث بشأن لوحة «نبات الخشخاش» الأصلية، والتي لم يمكن العثور عليها حتي الآن ولا التوصل لسارقها!، وهكذا كان الأمر في اكتشاف اختفاء مخطوطة أصلية للإمام الشافعي من مقتنيات دار الوثائق!، وقيل وقتها الكثير من الكلام والتصريحات وبعض طرائف المفاجآت حول سرقة هذه المخطوطة التي لم تعد حتي الآن لدار الكتب، ولا تم العثور علي خيط يؤدي إلي من سربها وباعها من الدار!، يحدث هذا وغيره في بلادنا التي تعتبر بعض مصالحها الحكومية دفاتر حضور وانصراف الموظفين من «الوثائق السرية»!، ومازالت جهات الحكومة حتي الآن لا تعترف بالقانون الملزم بتسليم ما لديها من الوثائق والمستندات التاريخية إلي دار الوثائق!، بل وتماطل في أن تفعل ذلك في غياب أي رادع حتي لو كان قانوناً!.