الحدود الجغرافية للدولة المصرية واضحة منذ فجر التاريخ المصريون قدموا غذاء الروح والبدن للشعوب الأخرى لا تعارض بين ولاء المسلم لدينه ووطنه فى وقت واحد تحمل آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول عن مصر، فضلا عما تثبته أحداث التاريخ، الكثير جدا مما يدل ويؤكد على حقيقة خصوصية مصر ومكانتها فى الإسلام، ورغم بداهة هذا الأمر وشدة وضوحه إلا أننا اليوم أشد ما نكون فى حاجة إلى التذكير بهذه الخصوصية من أجل إعادة بعث وإحياء الشعور بالولاء والانتماء الوطنى فى نفوس المصريين من جديد، بعد أن سعت قوى الأفك والضلال والتضليل فى الداخل والخارج - وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية وما تفرع عنها من جماعات متطرفة - لاستلاب الوعى وتعتيم الضمير عند المصريين، فجعلوا من الدين تجارة، ومن التطرف والدجالة حرفة يأكلون من ورائها سحتا، وينشرون بها الفتنة فى ربوع مصر.. بأمل خائب هو ألا تبقى ولا تذر على ثراها من شيء، إلا أن الله تعالى الحافظ لكنانته يأبى ورسوله أن يمسها سوء، وهو من روائهم محيط. من معالم هذه الفتنة التى سعى رءوس جماعة الإخوان عبر تاريخها الأسود، وعلى رأسهم كاهنهم الأكبر سيد قطب - الزعم بأن ولاء المسلم يجب أن يكون للعقيدة فقط وليس الوطن، وكأن هناك انفصالا وتعارضا بين ولاء المسلم لدينه وولائه لوطنه، وذلك بهدف خبيث هو صرف ولاء المصريين لجماعتهم فقط باعتبارها وحدها المدافعة عن الإسلام والمنوط بها الحفاظ على العقيدة، وهو ما انعكس بوضوح شديد خلال السنة السوداء التى حكموا فيها مصر عام 2012، حيث قاموا بتغيير مناهج التربية الوطنية فى المدارس الثانوية بإلغاء كل ما يخص ولاء المصرى لوطنه، وصرف ولائه لجماعة الإخوان الحاكمة فقط. فى حين أن كل آيات القرآن وأحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤكد بما لا يدع مجالا لأى شك - خاصة تلك المتعلقة بمصر- أنه لا انفصال ولا تعارض بين ولاء المسلم لدينه وولائه لوطنه، بل تؤكد أن ولاء المسلم لوطنه هو من صميم الإيمان، من ذلك الحديث الشريف: «من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد». لذلك فإن إعادة التذكير بهذه الحقيقة - التى تعمد قوى الشر على طمسها - فى هذا الوقت بالذات، هو بمثابة إبحار ضد التيار، حيث تشتد هجمة المتطرفين فى اتخاذهم الدين وسيلة لتنفير الناس من وطنهم مصر، بل - وهو الأمر الأخطر - حثهم على إشاعة القتل والتخريب والتدمير فى جنبات المجتمع المصرى الذى كفَّروه، وهو ما شاهدناه واضحًا بعد أن طردهم المصريون من السلطة والحكم بفضل الله بثورة 30 يونيو 2013، وعودة الروح المصرية إلى أصلها وحقيقتها، فارتفعت أصوات المصريين فى الميادين والشوارع ووسائل الإعلام والمنازل تهتف بحياة مصر، بل وصل هذا الهتاف إلى قاعة هيئة الأممالمتحدة فى نيويورك على ألسنة معظم العرب والمسلمين وليس المصريين فقط عقب خطاب الرئيس السيسى هناك، فكان ذلك الهتاف كالخناجر فى نحور هؤلاء المتطرفين. لقد أعطى المولى عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم مصر - دونا عن باقى بلاد الأرض قاطبة - قدرًا هائلا من الخصوصية بما يعد تكريمًا وتشريفًا وتعظيمًا لهذا البلد بالذات. وبقدر ما فى هذه الخصوصية من تكريم وتشريف لمصر وأبنائها، بقدر ما هو تكليف واقع على كاهلهم، شرفَّهم المولى عز وجل بتحمل عبئه، ويرتبط بقدر هذا البلد فى الدفاع عن الإسلام، وما هو منوط بأبناء مصر من حماية مقدسات المسلمين وحرماتهم، وتبليغ رسالة الإسلام على الدوام والاستمرار. فالمسألة إذن ليست مسألة وطن وإن كان فريدا فى حياته، فريدا فى مولده، ولكنها مسألة وطن أراد الله تعالى أن يرتبط مصيره بمصير الإسلام على الأرض. مصر بلد مقدس فى الإسلام: عندما يصف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذى لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى - مصر بأنها كنانة الله فى أرضه، فإن حضرته بهذا الوصف الذى ينسب فيه مصر إلى الذات الإلهية - كنانة الله - إنما يضع مصر بحكم هذه النسبة للذات الإلهية فى مقام البلد المقدس، وهنا يبرز سؤال مهم: منذ متى كانت مصر كنانة الله فى الأرض؟ والإجابة البديهية الغائبة عن معظم الناس.. أن مصر كانت كنانة الله فى الأرض منذ أن خلق الله الأرض، كانت فيها مصر كنانته المدافعة عن دينه فى الأرض. وهذا الأمر يجب أن يقر ابتداءً فى معتقد كل مسلم، سواء كان مصريا أو غير مصري، وأن يكون لهذا المعتقد انعكاساته فى سلوكه تجاه مصر.. وبما يتلاءم مع هذه النسبة للذات الإلهية، وما تضيفه من قدسية المكانة على مصر. وبحكم هذه النسبة للذات الإلهية، لم تحظ أرض من القرآن بوصف ولا تكريم بمثل ما حظيت به مصر من وصف وتكريم. إذ أنزل الله على رسوله من محكم آياته صورًا رائعة مشرفة عما حبيت مصر من فضل إلهى، وما أوتيت من حظ عظيم.. وهو ما تمثل فيما ذُكر عن مصر فى القصص القرآنى عن قدوم معظم رسل الله الكرام إلى أرضها، وما كفله المولى عز وجل لها من أمن وأمان، وما وطَّنه فى أرضها من كنوز الأرض، فضلا عن أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصر التى وصف فيها أبناء مصر بأنهم «خير أجناد الأرض»، كما أوصى أصحابه بمصر لما لهم فيها من «نسب وصهر». وعن فضل مصر وفضائلها، يحدثنا أبو عمر بن محمد بن يوسف الكندى، أول من كتب عن مصر باللغة العربية، فى كتابه (فضائل مصر): «لا يعلم بلد من أقطار الأرض أثنى الله عليه فى القرآن بمثل هذا الثناء، ولا وصفه بمثل هذا الوصف، ولا شهد له بالكرم غير مصر. ولا غرو أن تكون بما وصفها الخالق العليم مثابة للناس وأمنا، وتكون الحاضرة وما سواها بدوًا.. ألم يعلن ذلك على لسان سيدنا يوسف عليه السلام.. لقد فضل الله مصر على سائر البلدان.. كما فضَّل بعض الناس على بعض، والأيام والليالى بعضها على بعض، وقد فضَّل الله مصر وشهد لها فى كتابه بالكرم وعظم المنزلة، وذكرها باسمها وخصصها دون غيرها، وكرر ذكرها وأبان فضلها فى آيات القرآن الكريم». وقد أخرج جلال الدين السيوطى فى كتابه (حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة) عن ابن زولاق.. أن مصر ذكرت فى القرآن فى ثمانية وعشرين موضعا، وقال بل أكثر من ثلاثين موقعًا فيها ذكر مصر صريحا أو كناية. وتتوالى الأسماء التى تحدثت عن مصر وخصوصيتها فى الإسلام وما حباها الله من فضل.. منهم القاضى أبوعبدالله بن سلامة (1006م، 407ه) فى كتابه (المختار فى ذكر الخطط والآثار)، والشريف محمد بن أسعد الجوانى فى كتابه (النقط بحجم ما أشكل من الخطط)، والقاضى تاج الدين محمد بن عبدالوهاب بن المتوج (1326م، 726ه) فى كتابه (إيعاظ المتأمل وإيقاظ المتغفل فى الخطط)، والقاضى محيى الدين عبدالله عبدالظاهر فى كتابه (الروضة البهية الزاهية فى خطط القاهرة)، ثم يأتى المقريزى (1356- 766ه) أعظم مؤرخى مصر فى عصورها الإسلامية، ليستهل كتابه الخالد عنها (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) مخاطبا مصر وداعيا لها قائلا: «لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعز، يا أرض مصر فيك الخبايا والكنوز، ولك البر والثروة، وسال نهرك عسلا، كثّر الله زرعك ودرّ ضرعك، وذكى بناتك وعظمت بركتك». ذكر مصر فى آيات القرآن الكريم: من الآيات القرآنية التى ورد فيها ذكر مصر صراحة، وأظهرت فضل المولى عز وجل ورسله الكرام عليهم جميعا الصلاة والسلام على مصر، وكلها ترتبط بقدوم وإقامة حضراتهم على أرض مصر ونشر رسالتهم فى الوجود. من ذلك قوله تعالى عن سيدنا موسى وهارون: «وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا»، وعن نشأة سيدنا يوسف وإقامته فى مصر «وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا»، وأيضا عن سيدنا يوسف «قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»، وأيضا فى إطار رسالة سيدنا موسى إلى فرعون قوله تعالى: «ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى»، وعن رسالة سيدنا موسى إلى بنى إسرائيل «اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم». هذا فضلا عن آيات أخرى ورد فيها ذكر مصر كناية.. منها قوله تعالى فى شأن خروج بنى إسرائيل من مصر «كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين». وأيضا قوله تعالى: «وأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم». كذلك فى شأن الأمر الذى أصدره سيدنا موسى إلى بنى إسرائيل بدخول سيناء ولكنهم عصوه، فحرمها الله عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض. وفى ذلك يقول المولى عز وجل على لسان سيدنا موسى: «يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون».. ثم تمضى الآيات إلى قوله تعالى: «قال إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأسى على القوم الفاسقين». ومما يؤكد قدسية أرض سيناء وتلقى سيدنا موسى إحدى رسالته على أرضها، قوله تعالى: «فلما أتاها نودى يا موسى إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى» وأيضا قوله تعالى: «إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى»، كذلك قوله تعالى: «وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا» وقوله تعالى كذلك: «وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين».. وغير ذلك الكثير من الآيات القرآنية التى تشير إلى تلقى الكثير من رسل الله تعالى لرسالاتهم على أرض مصر، وما لهذه الرسالات من أثر طيب أثمر الإيمان والهداية فى نفوس المصريين. ويتضح من خلال إشارات القرآن الكريم التى تتحدث عن مصر وجود دلالات أساسية من الناحية السياسية والجغرافية، أهمها أن مصر هى الكيان (الجيوسياسى) الوحيد الموصوف فى القرآن الكريم وبشكل قاطع ومانع وجامع. أما الحقيقة الثانية المنبثقة من الحقيقة الأولى.. فهى أن مصر كما وردت فى القرآن الكريم تضمنت العناصر الأساسية التى ترتكن إليها نظرية الدولة فى القانون الدولى وعلم العلاقات الدولية الحديث، كما لو أنها رسالة إلهية لحاضرنا تماما كما كانت لماضينا، وهو ما يجعلها شيئا فريدا متفردًا يؤكد مقصد المولى عز وجل لها وبها. أما ما يتعلق بالحقيقة الأولى والمرتبطة بكون مصر الكيان الجغرافى - السياسى الوحيد فى القرآن فهى ثابتة وواضحة. ففى كتاب الله عز وجل نجد ذكر لكيانات مختلفة مثل أقوام (عاد) و(ثمود) و(لوط).. الخ. كما قرأنا عن كيانات أخرى مثل (الروم) أو قبائل محددة، ولكن مصر هى الكيان الوحيد المحدد فى كتاب الله، وتعكس الآيات التى تتحدث عنها وجود كيان سياسى جغرافى ممتد واضح، وليس على اعتبارها مكانًا لقبيلة أو أرضًا مفتوحة الهوية والمكان، بل إن مصر مُعرَّفة فى القرآن كما لو أنها كانت موضحة للعيان لا تحتاج إلى حدود لتعريفها، فهى مرتبطة بمكان يعرفه الخطاب الإلهى بوضوح، ويدركه قارئ القرآن بشكل يكاد يكون من خلال الحدس، ذلك لأن القرآن يتحدث عن مصر على اعتبارها تمثل كيانا متكاملا معروفا، وذات مكان معلوم. أما فيما يتعلق بالحقيقة الثانية والمرتبطة بتفسير الدولة وأركانها، فهى وفقا للقانون الدولى ترتكز على أربعة محاور رئيسية أهمها (الشعب)، والثانى هو (الإقليم) أى المكان بحدوده الذى يعيش فيه الشعب، والثالث هو (السلطة السياسية)، ويضاف إلى ذلك (اعتراف دولى) بالدولة. فإذا ما نظرنا لآيات القرآن التى تناولت مصر فسنجدها توضح أركانها بشكل يكاد يكون مؤسسيًّا. فالإقليم معرف كما أشرنا آنفا، وهو الكيان المصرى الذى يعرف الجميع أين تقع مصر ونيلها، أما العنصر الثانى وهو الشعب المصرى فتوضحه آية قوله تعالى: «ونادى فرعون فى قومه أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى»، ففرعون يمثل السلطة السياسية المنظمة القادرة على ممارسة السيادة.. وكل هذه الإشارات القرآنية لها دلالاتها التى تعكس أن مصر دولة منذ القدم، بل هى أول وآخر كيان سياسى يعترف به القرآن الكريم. أضف إلى هذا بعدا هاما آخر وهو (روح الدولة) التى أشار لها الفيلسوف الألمانى (هيجل) بالبعد (الميتافيزيقى) - أى ما وراء الطبيعة - والذى لا يمكن تغافل دوره فى نهوض الدول ومواجهتها للتحديات التى تعترضها. ذلك أن الدول لا تحيا فقط بالمضامين المادية فقط، وبهذا البعد الروحى العظيم يزداد يقيننا بأن مصر كانت ولا تزال وستظل محمية إلهية مستعصية على أعدائها فى الداخل والخارج. وربما أبرز دليل ذلك الثورة الشعبية العارمة فى 30 يونيو 2013، والتى أطاحت بنظام حكم الإخوان الذى كان يريد أن يذهب بمصر بعيدا عن الدور المنوط بها من قبل المولى عز وجل، بل لقد سعى هذا النظام الإخوانى إلى تفكيك أواصرها، فجاءت هذه الثورة - بهذه الروح المصرية العظيمة - لتقضى بعد سنة واحدة على هذه النظام الفاسد، ولتنهض بدورها من جديد فى الدفاع عن الإسلام وحرمات المسلمين الذين يتعرضون اليوم لأخطر الهجمات الشرسة من قبل أعداء فى الداخل والخارج، لذلك صدقت المقولة الشائعة عن «مصر المحروسة». مصر.. مقصد رسل الله وأنبيائه: لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى، قدّر لرسله وأنبيائه مقادير يجتمعون عليها ويشتركون فيها، وموارد إليها يردون.. من ذلك أن يقدم الكثير من رسل الله تعالى وأنبيائه إلى مصر، فيقيموا فيما ما شاء الله لهم، ينشرون رسالة الإسلام على أرضها وبين أهلها. فما من رسول من رسل الله تعالى إلا وكان له ارتباط بصورة أو بأخرى بمصر، يدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، تحقيقا لعله خلق الإنسان فى الوجود.. مصداقا لقوله تعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون». هذه هى مصر المقدسة، مهد الدعوة الحقة لعبادة المولى عز وجل على امتداد تاريخ البشرية، وليست كما يدعون وثنية أو فرعونية وكما أرادوا أن يلوثوا معتقدات المصريين تجاه أصالة إيمان بلدهم، مستهدفين بذلك قطع الروابط بينهم وبين تاريخهم العريق. وكما كان بعث حضرات رسل الله تعالى إلى مصر تشريفا وتكريما لها ولأهلها، فإنه يتعلق أيضا بحكمة إلهية عظمى تتعلق بجوهر الدعوة إلى دين الله (الإسلام) وإنتشاره والدفاع عنه والزود فى سبيله، وارتباط كل ذلك بأهل مصر وصلاحية قلوبهم لتقبل دعوة الرسل والإيمان بحضراتهم والارتباط بهم، وسرعة انتشار الإيمان فى تلك القلوب.. مصداقا لقوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته». وكما أن لدعوة الرسول ثمرة طيبة فى نفوس تابعيه، فإن لها ثمرة أيضا فى بعث حياة جديدة للأمة التى أرسل إليها، ونشأة جديدة للقوم المقيمين فيها بعد موات، مصداقا لقوله تعالى: «أفمن كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورًا يمشى به فى الناس». وإذا رجعنا إلى أية قوله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله».. فسوف يتبين لنا أنه حيثما وجد الرسول وجدت التبعية المؤمنة لحضرته. وهو ما يؤكد ويبرز بالتالى حقيقة مهمة أن مصر منذ ماضيها السحيق وإلى حاضرها القريب وحتى مستقبلها البعيد.. وإلى أبد الآبدين إن شاء الله دائما هى مصر المؤمنة مهد ومبعث الرسالات بدين الله الحق، وهو ما ينفى بالتالى ويدحض كل الإدعاءات الكاذبة التى تروجها الجماعات المتطرفة بأن القدماء المصريين كانوا عبدة أوثان وأصنام، وأن أرض مصر أرض جهالة وأهلها كفرة حلال الدم والمال والعرض رغم إسلامهم وإيمانهم على حد مزاعم سيد قطب وجماعته. فلم تكن الحضارة المصرية القديمة والعظيمة بكل ما حوته من علوم ومعارف فى كل المجالات الحضارية المادية واللامادية، إلا ثمرة بعث رسل الله تعالى فى المصريين قديما، باعتبار كل رسول فى وقته مصدر العلم والمعرفة فى الوجود كله وذلك لكونه متحققا باسم الله (العليم).. مصداقا لقوله تعالى عن سيدنا إسحق عليه السلام: «وبشروه بغلام عليم». فمن حضرات رسل الله الذين قدموا إلى مصر قديما، تعلم المصريون أصول علوم الفلك والهندسة والمعمار والزراعة والصناعة والرى والكيمياء.. وغير ذلك من العلوم التى انعكست فى آثارهم وكتاباتهم التى لا يزال علماء العالم حتى اليوم عاجزين عن فك طلاسيمها. ولم تقتصر ثمار بعث رسل الله فى المصريين القدماء على عمارة الدنيا، بل - والأهم - كان لهذا البعث ثمار أيضا فى هدايتهم إلى الله تعالى، وعمارة نفس الإنسان وبناء شخصيته المعنوية، فأسسوا أخلاقا تحتذى، وأعرافا وتقاليد تتبع، ومُثلا عليا يسير عليها الإنسان فى حياته، فيضمن فى آخرته حسن المآل. وهو ما عكسته تعاليم الملوك ونصائح الوزراء وإرشادات الحكماء التى حوتها نقوش المعابد ومتون الأهرام ونصوص التوابيت والبرديات.. وبهذه الأخلاقيات والأعراف والمثل العليا، والتى انعكست فى سلوكيات المصريين القدماء - والتى كانت ثمرة تقبلهم لرسالات رسل الله الذين وفدوا إليهم - كانت مصر قبلة لمن جاورها من أمم الأرض وشعوبها، ومن وفد عليها من طلاب العلم والمعرفة والحكمة والتجار، ثم يعودوا إلى بلادهم فلاسفة وعلماء.. وقد تمثل ذلك فيمن أطلق عليهم فلاسفة وحكماء اليونان، فقد تأكد أنهم جميعا كانت خطواتهم الأولى فى تلقى العلم والفلسفة والحكمة فى المدرسة المصرية القديمة. وكما كانت مصر تقدم غذاء البدن لطلاب الرزق من الشعوب التى حولها.. فإنها كانت تقدم لهم أيضا غذاء النفس الذى تغذى به المصريون بفعل رسالات رسل الله التى زرعت فى مصر نبتا طيبا كان له ثمرة على مر الأزمنة والقرون، حيث غرزت فى أفئدة المصريين معاني جديدة ومبادئ جليلة تغلبت على الماديات.. إذا رأت السعادة فى صالح الأعمال، وفيما يكتسبه المرء من فضائل.. نرى ذلك واضحا فى كتابات المصريين القدماء التى سجلت ما كان يسود حياتهم من عدالة، وبشَّرت بأن الخلود لا تسوغه وجاهة أو ثراء، وإنما سبيله اجتناب الآثام وفعل الخيرات والصدق فى القول والعمل والبر بالناس، واحترام حقوقهم والإعداد ليوم الحساب بعد الممات، بما ينبغى أن يتزود به الإنسان من دنياه لأخراه من صالح الأعمال. لذلك لم يكن غريباً أن يطلق عدد من المؤرخين الفلاسفة على المجتمع المصرى القديم «المدينة الفاضلة».