وزير الأوقاف يكلف مديرين جديدين لمطروح وبورسعيد    وزير التموين : استمرار الشراكة مع القطاع الخاص لتوفير زيوت الطعام بأسعار تنافسية    الاستثمار السياحي يعيد التوازن للاقتصاد المصري    تهجير قسرى    الخبير الأمني الأمريكي مارك توث: الدعم السريع يمارس إبادة جماعية    ألبانيا ضد إنجلترا.. توماس توخيل يوضح موقفه من غضب اللاعبين    يوسف إبراهيم يتأهل إلى نهائي بطولة الصين المفتوحة للإسكواش    عزاء صبري.. نجليه في الزمالك.. إصابة ثلاثي المنتخب.. ومستحقات فيريرا| نشرة الرياضة ½ اليوم    حقيقة مفاوضات الأهلي مع أسامة فيصل وموقف اللاعب    المحكمة تغرم 10 شهود في قضية سارة خليفة لتخلفهم عن حضور الجلسة    مخاطر الإدمان وتعاطى المخدرات في ندوة بجامعة دمنهور    أحمد مالك: أقتدى بالزعيم خلال اختيار أدواري.. والسقا قدوتي في التمثيل    متحدث الأوقاف يكشف كواليس دولة التلاوة.. ويؤكد: نفخر بالتعاون مع المتحدة    المنيا تتألق في انطلاق المرحلة السادسة من مسرح المواجهة والتجوال    من مقلب قمامة إلى أجمل حديقة.. مشاهد رائعة لحديقة الفسطاط بوسط القاهرة    خالد عبدالغفار: 95% من المترددين على مستشفى جوستاف روسي ضمن التأمين الصحي والعلاج على نفقة الدولة    قضية إبستين.. واشنطن بوست: ترامب يُصعد لتوجيه الغضب نحو الديمقراطيين    برلمانى: الصفقات الاستثمارية رفعت محفظة القطاع السياحي لأكثر من 70 مليار دولار    حبس والدى طفلة الإشارة بالإسماعيلية 4 أيام على ذمة التحقيقات    عملات تذكارية جديدة توثق معالم المتحف المصري الكبير وتشهد إقبالًا كبيرًا    ذكرى اعتزال حسام حسن.. العميد الذي ترك بصمة لا تُنسى في الكرة المصرية    خبير أسري: الشك في الحياة الزوجية "حرام" ونابع من شخصية غير سوية    الزراعة: تعاون مصري صيني لتعزيز الابتكار في مجال الصحة الحيوانية    وزير الصحة يعلن توصيات المؤتمر العالمى للسكان والصحة والتنمية البشرية    المصارعة تشارك ب 13 لاعب ولاعبة في دورة التضامن الإسلامي بالرياض    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    اليابان تحتج على تحذيرات السفر الصينية وتدعو إلى علاقات أكثر استقرارًا    سفير الجزائر عن المتحف الكبير: لمست عن قرب إنجازات المصريين رغم التحديات    القاهرة للعرائس تتألق وتحصد 4 جوائز في مهرجان الطفل العربي    الداخلية تكشف ملابسات تضرر مواطن من ضابط مرور بسبب «إسكوتر»    جنايات بنها تصدر حكم الإعدام شنقًا لعامل وسائق في قضية قتل سيدة بالقليوبية    جيراسي وهاري كين على رادار برشلونة لتعويض ليفاندوفيسكي    أسامة ربيع: عبور سفن عملاقة من باب المندب لقناة السويس يؤكد عودة الأمن للممرات البحرية    استجابة لما نشرناه امس..الخارجية المصرية تنقذ عشرات الشباب من المنصورة بعد احتجازهم بجزيرة بين تركيا واليونان    للأمهات، اكتشفي كيف تؤثر مشاعرك على سلوك أطفالك دون أن تشعري    عاجل| «الفجر» تنشر أبرز النقاط في اجتماع الرئيس السيسي مع وزير البترول ورئيس الوزراء    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    موجة برد قوية تضرب مصر الأسبوع الحالي وتحذر الأرصاد المواطنين    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    دعت لضرورة تنوع مصادر التمويل، دراسة تكشف تكاليف تشغيل الجامعات التكنولوجية    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    آخر تطورات أسعار الفضة صباح اليوم السبت    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    الشرطة السويدية: مصرع ثلاثة أشخاص إثر صدمهم من قبل حافلة وسط استوكهولم    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    طريقة عمل بودينج البطاطا الحلوة، وصفة سهلة وغنية بالألياف    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    نقيب المهن الموسيقية يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    نانسي عجرم تروي قصة زواجها من فادي الهاشم: أسناني سبب ارتباطنا    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموت والحياة:مصطفى القشاشى.. باع أرضه من أجل الصحافة.. ومات فقيرًا فى حجرة بواب!
نشر في الوفد يوم 29 - 09 - 2021


«عجبى عليك يا زمن
بترسى ناس ع البر
وناس غلابة رزقهم
من خرم إبرة يمر
عايشين كده فى المحن
ولا شافوا لحظة تسر»
(الجيزة - 1965)
فى منتصف شارع الهرم توجد عمارة متعددة الطوابق، عُرفت باسم صاحبها (عمارة القشاشى بك) هى الآن ليست عمارة البيه بعدما باعها منذ سنوات. هى عمارة (البيه البواب) الذى اشتراها شقة وراء الأخرى حتى امتلكها كلها! واليوم لم يجد مصطفى القشاشى -فى خريف عمره الذى اقترب من ال85 سنة- مسكناً يعيش فيه، وحيطاناً تؤويه، فعاد إلى (البيه البواب) يطلب منه السماح بالعيش فى حجرة البواب، حيث لم يعد له مكان ينام فيه! وبالفعل وافق المالك الجديد، ليعيش الرجل باقى أيام حياته فى تلك الحجرة حتى رحل فى منتصف شهر ديسمبر/ كانون أول عام 1965 وحيدًا، فقيرًا، حزيناً على (الدنيا التى كانت) -والمسمى للكاتب الراحل محمود عوض- والعمر الذى.. كان!
(قصر عابدين 1954)
كانت الساعة قد اقتربت من الخامسة عصر يوم 13 أبريل/ نيسان من ذلك العام، عندما انقضى اجتماع عاجل لمجلس قيادة الثورة خرج منه الصاغ (رائد) صلاح سالم (وزير الإرشاد القومى حينذاك) متوجهًا على الفور بخطابه تستطيع أن تسميه الخطاب المؤسس لما حدث للصحافة المصرية فيما بعد يوليو/ تموز 1952 بخطابه الغريب، والعجيب، والحاد، والغاضب إلى السادة الحضور من الصحفيين قائلًا: «لكِ يوم.. يا صاحبة الجلالة»! وعندما تجرأ شاب صحفى وسأله: «ولماذا يافندم تتوعد الصحافة، وتُطلق ضدها هذا الاتهام والتهديد؟» رد قائلًا: «يُهمنى أن أعلن لكم أن مجلس قيادة الثورة قد عثر على وثائق ومستندات تثبت أن نقيب الصحفيين كان وقتها حسين أبو الفتح شقيق محمود أبو الفتح تقاضى 2000 جنيه من المصروفات السرية أيام الحكومات الحزبية قبل الثورة. وإن السكرتير العام كان وقتها مصطفى القشاشى تقاضى هو الآخر 5 آلاف جنيه»! هنا وفى هذه اللحظة تقدم الصحفى مرة أخرى وسأله: «وما طبيعة هذه الوثائق والمستندات؟ رد صلاح سالم وهو يستعد لمغادرة المكان مسرعًا حتى يلحق باجتماع آخر للمجلس قائلًا: «إنها إيصالات وقع كل منها بخط يده عليها وبإمضائه بتسلم هذه المبالغ»! الصحفى الشاب وقف فى دهشة! ثم وجّه عدة أسئلة لزميل صحفى يقف بجواره قائلًا: «كيف يتسق هذا الاتهام مع العقل والمنطق.. فلو كان الأمر كذلك (رشوة يعنى) فكيف لمرتشٍ أن يسجلها، ويوقع عليها بخط يده فى أوراق/ وإيصالات رسمية كما يقول الصاغ! ثم كيف يتهم النقيب فى مبلغ 2000 جنيه ويتهم السكرتير فى 5000 جنيه ولو كان ذلك كذلك لحدث العكس.. بالإضافة إلى كل ذلك فنحن جيل الصحفيين الشبان نسمع ونعرف عن مصطفى القشاشى أنه رجل شريف، ونزيه، وعصامى، ووطنى مخلص، يدفع من جيبه الخاص للنقابة ولا يسترزق منها حتى إن مئات الصحفيين كانوا تقدموا بطلب للجمعية العمومية -من شدة حبهم وثقتهم فيه- يطلبون انتخابه سكرتيرًا عامًا للنقابة مدى الحياة.
«رسينى يا حبيبتى
أنا بالى مش طويل
فى البحر انتى سفينتى
ع البر انتى الدليل»
(القاهرة 2013)
فى صحيفة الأهرام (ملحق الجمعة) الصادر يوم 5 أبريل/ نيسان من ذلك العام، كتب رسام الكاريكاتير الراحل طوغان مقالًا جاء فيه: «فى إحدى جلسات مجلس النقابة قرروا إيقاف صرف المساعدات والإعانات لعدد من الصحفيين الذين قد تقدموا بطلبات للحصول عليها. ورفض المجلس طلبهم متعللًا بأن حالاتهم لا تستحق المساعدة. وعندما انتهت الجلسة وجاءوا يسألونه، أبلغهم القشاشى بأن المجلس وافق ولكن أمين الصندوق غائب اليوم، وإنه سيعطيهم من جيبه الخاص وسوف يصرف هو من أمين الصندوق فيما بعد! وعندما حدثه أعضاء المجلس فى الجلسة التالية عن هذا الأمر. قال: «صرفت لهم من جيبى لأرفع عنكم -وعنهم- الحرج، وسوف أستمر فى الصرف إذا لم تستجيبوا لهم»، ولقد استجاب المجلس بعد ذلك!
«يا من يعيدنا إلى بلادنا
بلادنا العميقة الخضرة
نبكى، ولو مرة
من قلبنا»
(وسط القاهرة مقهى اللونا بارك)
على هذه المقهى يجلس كل مساء الصحفى مصطفى القشاشى حيث يلتقى دائمًا مع أهل الفن مثل محمد كريم وأحمد بدرخان وجليل البندارى ونيازى مصطفى وحسن الإمام وغيرهم.
فنجان قهوه يا عبده (وعبده هذا قهوجى متوسط العمر كان معجبًا دائمًا بمشوار ورحلة كفاح مصطفى القشاشى التى بدأت من (بير السلم) حيث بدأ عاملًا فى مطبعة يصفّ الحروف ولا يعرف القراءة والكتابة، لكنه بتعبه، وتصميمه، وصبره، وكفاحه أصبح صاحب عمارة فى شارع الهرم وعزبة مساحتها 13 فدانًا (فى قول آخر 30 فدانًا) ومجلة أسبوعية اسمها (الصباح) ومن قبلها صحيفة يومية اسمها (أبو الهول) صدرت عام 1918 إبان الحرب العالمية الأولى متحديًا بها قرار رئيس الوزراء إسماعيل صدقى باشا الذى أوقف صدور الصحف اليومية حينذاك).
«القهوة المظبوطة يا مصطفى بك».. ثم أردف القهوجى قائلًا: «أنا شفت صورتك فى العدد الأخير من مجلة الفن مع الفنانة الجميلة أمينة رزق ومن أجلك احتفظت بالمجلة فى بيتى»!
ابتسم مصطفى القشاشى قائلًا:
«يا راجل عيب عليك.. قول الحقيقة.. قول إنك تحتفظ بها من أجل نجمتك المفضلة أمينة رزق».. قالها وهو يبتسم فيما غادر القهوجى المكان مسرعًا ليلبى طلبات الزبائن. فى نفس اللحظة جاء المخرج حلمى رفلة والكاتب جليل البندارى والمخرج أحمد بدرخان ومن بعدهما جاء الصحفى الشاب الذى رفض العودة لمنزله قبل إبلاغ مصطفى القشاشى بما أدلى به الصاغ صلاح سالم للصحفيين قبل قليل فى بهو قصر عابدين!
«أنا، والثورة العربية
نبحث عن عمل،
فى شوارع باريس
نبحث عن غرفة،
نتسكع فى شمس أبريل
إن زمانًا مضى
وزمانًا يجىء»
(المقهى بعد 10 دقائق)
«أنا مرتشى يا بندارى؟ أنا أخذت 5000 جنيه مصاريف سرية يا بدرخان؟! أنا فاسد كما يقول الصاغ يا رفلة»؟ هكذا بدأ يسأل مصطفى القشاشى الحضور من الأصدقاء، ويهزى بكلمات هامسة، وغاضبة بينه وبين نفسه، وهو يتألم من قسوة، وتطاول، كل هذه الاتهامات والتشويه الذى طاله وطال غيره من شرفاء الصحفيين -حسب قوله- وقتها! بعد فترة صمت خيمت على الجميع قال الصحفى الشاب: «يا أستاذ مصطفى هذه ادعاءات باطلة سببها رغبة السلطة الحاكمة فى تشويه الصحافة بعدما ساندت الفريق الذى كان يطالب بالديمقراطية فى ظل الصراع على السلطة بين محمد نجيب وعبد الناصر فى أزمة مارس 1954 التى بسببها اتسع سوء الظن بين الصحفيين وأعضاء مجلس القيادة بصورة غير مسبوقة»، ثم استدرك الصحفى الشاب قائلًا: «والذى قيل اليوم من اتهامات وأباطيل فى أغلبها كانت له مقدمات واضحة، وكاشفة، فمنذ أيام نشرت مجلة (آخر ساعة) المملوكة للأخوين مصطفى وعلى أمين (بعد ذلك انقلب السحر على الساحر واعتُقل مصطفى أمين بتهمة التخابر لصالح دولة معادية) مقالًا كتبه محمد حسنين هيكل يطالب فيها نقابة الصحفيين بتطهير نفسها، والكشف عن المصروفات السرية للصحفيين وهذا المقال كان مقدمة لهجوم صلاح سالم اليوم على نقابة الصحفيين»! هز القشاشى رأسه قائلًا: «نعم.. قرأت هذا المقال، ولكن هذا الهجوم سببه أيضاً ما قرره مجلس النقابة منذ أيام بتوجيه الدعوة للصحفيين العرب لإقامة مؤتمر دولى هدفه رفع الرقابة عن الصحافة ودعم الديمقراطية».. بعد دقائق غادر مصطفى القشاشى المقهى وعاد إلى بيته حزينًا، مهمومًا، ساخطًا، رافضًا الطعام والشراب والكلام!
لا سماء هذا المساء
لا سهرَ.. لا مدينة
لا بلدْ
أجلس فى آخر العمر
متكئًا على وحدتى
شاردًا.. فى لا أحدْ»
(الهرم - الساعة الثامنة صباحًا)
داخل شقة فرشها قديم، جلس مصطفى القشاشى بعد ليلة ضبابية لم يغلق له فيها جفن وأمسك بصحف الصباح، ليجد خبراً بالصفحة الأولى ينُشر أسماء متهمة بتقاضى رشاوى تحت مسمى مصروفات سرية من حكومات سابقة، واسمه فى أول الأسماء التى ضمت أبو الخير نجيب رئيس تحرير صحيفة الجمهور المصرى (كان معارضاً أصلًا لمجلس قيادة الثورة واعتُقل 16 سنة بعد ذلك لأنه طالب بالديمقراطية) وإحسان عبدالقدوس ووالدته السيدة فاطمة اليوسف ومحمد عبدالمنعم رخا وكامل الشناوى وإدجار جلاد وعبد الرحمن الخميسى وغيرها من الأسماء. احتسى الرجل فنجان قهوته وأغلق الصحيفة وجاء بقلم وورقة وكتب الرسالة التالية:
«السيد الصاغ/ صلاح سالم وزير الإرشاد القومى
أحييكم أكرم تحية واتشرف فأبدى أن بعض الزملاء سمعوا من سيادتكم أننى باعتبارى سكرتير نقابة الصحفيين تسلمت من المصروفات السرية مبلغ 5 آلاف جنيه، فأبادر سيادتكم أنى فيما تسلمته من مصروفات لم أكن أكثر من وسيط فى مسائل قومية أو نقابية أو خيرية، وكنت عند تكليفى بأى مسألة متصلة بهذه المصروفات أقدم مستندات الصرف، فإذا كانت المبالغ التى أنفقت فى مسائل عامة، قيدت باسمى فذلك تنفيذا لنظام الروتين الحكومى، وليس لى ذنب فى هذا. والمناسبات التى كُلفت بالوساطة فيها معروفة لجميع الصحفيين. ولم أتناول أى مبلغ من أجل مسائل سياسية أو حزبية فى أى عهد من العهود. وقد أصابنى مرض ألزمنى الفراش ثلاث سنوات كاملة اضطررت خلالها إلى بيع منزلى بشارع الهرم ثم إلى بيع المبنى الذى كنت أنشأته لإدارة جريدتى سنة 1934 وأخيرا فى سنة 1951 اضطررت إلى بيع الثلاثة عشر فدانًا التى كانت آخر ما أملكه لتسديد خسارة جريدتى التى انشغلت عنها لمباشرة أعمال نقابة الصحفيين وأعضائها. وكل ما أذكره تؤيده سجلات الشهر العقارى. ورغم بيع كل ما نملكه احتفظنا بفكرتنا، وكراهيتنا للحزبية مازلنا نسدد فى باقية ديون
تراكمت علينا بسبب الخسائر التى تكبدناها. وفى البنوك كمبيالات مستحقة علينا تشهد بصحة كل هذا الذى نقره».. ثم ختم الرجل شكواه التى أرسل منها نسخة إلى مصطفى أمين الذى كان يساند الثورة حتى هذا الوقت! قائلًا: «وهذا ولم ننشر فى صحيفتنا طول الخمسة وثلاثين عامًا التى قضيناها فى العمل بالصحافة كلمة تتنافى مع فكرتنا القومية وصالح البلاد.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». وبعد هذا الخطاب جلس الرجل يسترجع مشوار حياته وذكرياته وكفاحه من أجل مهنة الصحافة وكرامتها وماضيها منذ انتخابه سكرتيرًا عامًا للنقابة فى 5 ديسمبر/ كانون الأول 1941 وكذلك الصحف التى أصدرها ومنها صحيفة أبو الهول التى تبنت فكرة بناء ستوديو مصر ونجحت فى ذلك. وفى نفس الصحيفة ظهرت وتألقت أول صحفية مصرية وكان اسمها منيرة ثابت التى كانت تناصر قضايا المرأة فى ذلك الزمان. وكيف نجح فى إقناع حكومة النقراشى باشا التى تولت الحكم ما بين (9 ديسمبر/ كانون الأول 1946 حتى 28 ديسمبر/ كانون الأول 1948) بدفع تكاليف بناء مقر نقابة الصحفيين (المبنى القديم)؟ وبعدما انتهى من كتابة الخطاب وتلك الذكريات قام ودخل إلى سريره لينام بعض الوقت!
«لو تفهموا معنى السكوت
والهمس فى ضل البيوت
لو تفهموا..
ماكانتش ضحكة صاحبى فى قلبه تموت»
(القاهرة 1946)
فى ذلك العام جاء محمود فهمى النقراشى رئيسا للحكومة واستغل مصطفى القشاشى علاقته الطيبة به وذهب إليه قائلًا: «يا دولة الباشا نحتاج دعم الحكومة لبناء مبنى جديد للصحفيين بدلًا من الشقة الصغيرة التى نحن فيها الآن» سأله النقراشى باشا: «وأين الأرض التى سيقام عليها المبنى»؟ رد: «لدينا قطعة أرض (المكان الحالى للنقابة فى شارع عبدالخالق ثروت) كان مصطفى باشا النحاس قد خصصها لنا وعندما عارض الوزير حامد زكى هذا التخصيص استدعاه النحاس باشا وقال له بالحرف الواحد: «أنا قلت الأرض دى تروح للصحفيين.. يعنى تروح لهم.. فاهم؟» ثم أكمل القشاشى قائلا: «والآن جاء دور حكوماتكم يا معالى الرئيس». سكت النقراشى باشا ثم قال: «عموما.. تقدم بطلب واتركه وسنبحث أمره»!
«أنا الشعب ماشى
وعارف طريقى
كفاحى سلاحى
وعزمى صديقى»
(مكتب رئيس الوزراء بعد أسبوع)
استدعى مكتب الرئيس وقتها مجلس نقابة الصحفيين لمقابلة عاجلة مع النقراشى باشا وفى الاجتماع قال لهم: «أحب أقول لكم إن جميع الطلبات التى تقدم بها الأستاذ مصطفى القشاشى قد تمت الموافقة عليها من مجلس الوزراء.. حيث وافق المجلس على اعتماد تكاليف بناء مبنى نقابة الصحفيين، ويسعدنى أن أبلغكم أن قرار المجلس هو أن يتم بناء المبنى مهما كانت تكاليفه، ولا تبخلوا فى عملية البناء، لأننا نريد لنقابة الصحفيين أحسن بناء، وعليكم أن تفرشوها بأفخم المفروشات حتى تصبح منارة إشعاع تطل منها مصر بحضارتها العريقة على الدنيا كلها» ثم استطرد رئيس الوزراء قائلًا: «اريدكم أن تعرفوا اننى قررت عندما يحضر وفد أجنبى إلى مصر أن أدعوه إلى نقابة الصحفيين»! وكانت مفاجأة لم يحلُم بها الصحفيون، بعدما علموا من النقراشى باشا أن الذى تقدم بالطلب، وطارده بالليل قبل النهار فى سرية تامة هو مصطفى القشاشى!
«ويقهر الموت..
قبوله بالرضا والطوع
الفرد ينشى، ويمشى
والخلود للنوع»
(الشقة - بعد مرور عدة ساعات)
حاول الرجل أن ينام فلم يجد للنوم سبيلًا، وبدأ يشعر بألم فى ذراعه، وضيق فى الصدر، وصعوبة فى التنفس.. زوجته ساعدته فى ارتداء ملابسه وجاء أحد الجيران واصطحبه للطبيب الذى طلب منه الراحة التامة خوفًا من حدوث جلطة بسبب ارتفاع الضغط لديه.. مرت الأيام والشهور وبدأ رويدا رويدا الرجل ينسحب من المشهد الصحفى كله وبدأت ظروفه الحياتية والمعيشية تتراجع فى ظل بيعه لكل أملاكه، وتراكم الديون عليه ولم يبق له (من عمارة كاملة) إلا الشقة التى يعيش فيها بعد رحيل زوجته. وعندما ضاقت به الدنيا (باع) الشقة هى الأخرى واستأذن المالك الجديد فى أن يسمح له بالنوم فى حجرة البواب. وظل على هذا الحال حتى أصابه المرض، ولم يجد ثمن الدواء، ونُقل إلى المستشفى وليس لديه ما يدفعه للعلاج. ولما علمت النقابة سارعت بدفع المصاريف حتى وافته المنية منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول 1965 وعندما لم يجدوا من يقيم له سرادق عزاء فتحت النقابة أبوابها لتلقى العزاء فيه! ليموت الرجل وحيدًا فقيرًا لم يمش فى جنازته سوى 6 صحفيين مع أحمد بدرخان ومحمد كريم وحلمى رفله وبعض المارة الذين كانوا –بطبائع الأشياء– لا يعرفون أنهم يمشون فى جنازة رجل عصامى، مكافح، صادق، غير منافق، بدأ حياته من الصفر وانتهت إلى نفس الصفر، لأنه -ببساطة- لم يتاجر بمواقفه السياسية، كما فعل غيره! ولم يبع ضميره المهنى كما فعل غيره! مما جعله يبيع عزبته من أجل الصحافة فى الوقت الذى اشترى فيه غيره عزبة من وراء الصحافة! وباع عمارته من أجل الصحافة فى الوقت الذى اشترى فيه غيره العمارات من وراء الصحافة! وأغلق صحيفته ومجلته فى الوقت الذى ترأس فيه غيره كبرى الصحف والمجلات! وبعد رحيله المؤلم والحزين كتب جليل البندارى يقول: « كان أكبر الناس قلبًا، وبهذا القلب الكبير قدم خدمات جليلة للصحفيين، وللنقابة، لا تنسى على مر الأيام» هكذا كتب البندارى متوقعًا ألا ينسى الصحفيون –ولا تنسى نقابتهم– هذا الرجل الذى أحبهم وأحب مهنتهم لكنهم (الصحفيين – ونقابتهم) -كعادة أهل حارتنا- نسوه، وتجاهلوه، ولم يطلقوا اسمه ولو على قاعة صغيرة فى المكان الذى كافح، وحارب، من أجله منذ عام 1944 فى الوقت الذى لم ينسوا فيه غيره، وأطلقوا أسماءهم على كبرى قاعات النقابة!
وفى النهاية... مات الصحفى مصطفى القشاشى دون أن يعرف ما عرفه –نجيب محفوظ– ودون أن يفهم ما فهمه نجيب محفوظ.. من أن.. (آفة حارتنا –أو نقابتنا– النسيان)!
خيرى حسن
الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
الشعر المصاحب للكتابة للشعراء:
- فرانس كافكا
- أحمد عبدالمعطى حجازى
- فؤاد قاعود
- زين العابدين فؤاد
- زكى عمر
- حسن أبو عتمان
الصور:
مصطفى باشا النحاس
محمود باشا النقراشي
الصاغ صلاح سالم
الصحفى مصطفى القشاشى
المصادر:
كتاب: (النقراشى) دار الشروق– طبعة/ 2007
كتاب: (بارونات الصحافة) جميل عارف– طبعة/ 1992
الصحف:
الأهرام/ الأخبار / الجمهورية / الوفد
المجلات:
آخر ساعة/ الإذاعة والتليفزيون/ المصور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.