«مصر اتجننت».. حقيقة يرددها كثيرون الآن، لما يرونه من مشاهدات وأحداث ومواقف غريبة، جعلت مصر فى عيون الداخل والخارج تشبه إلى حد كبير مستشفى الأمراض النفسية والعقلية. لقد تحولت صاحبة السبعة آلاف سنة من الحضارة إلى حالة ميئوس من علاجها، لن تخرج منها إلا بمعجزة تنتشلها من هذا الانهيار السياسى والاقتصادى والاجتماعى والأمنى. فمصر الآن كشكول أمراض، ولم تجد بعد الطبيب الماهر الذى يخرجها من غرفة إنعاش نظام عاجز بليد، ليست له رؤية ولا هدف ولا خطة واقعية لحكم البلاد.. يرتدى فقط ثوب الإسلام السياسى لتحقيق مبتغاه وهو السلطة ولا شىء آخر غيرها... فلا توجد محافظة خالية من إضراب أو اعتصام أو اشتباكات أو قطع للطرق وخطوط السكة الحديد ولا يوجد مسئول قادر على اتخاذ قرار، فكل الأيادى صارت مرتعشة، خائفة.. نتيجة حالة «الجنان» التى تعانى منها مصر الآن. مليونيات كل جمعة.. مظاهرات واحتجاجات على مداراليوم، اقتصاد ينزف، دين محلى تجاوز ال«1٫2» تريليون جنيه، وعجزاً فى الميزان التجارى بلغ «21٫5» مليار جنيه، بورصة تراجعت 15٪ فى ثلاثة شهور، وسط إحجام شديد من المستثمرين العرب والأجانب وخروج الشركات الكبرى من المقصورة الرئيسية. الداخلية تضرب بالخرطوش وتلفق القضايا للنشطاء والثوار، وحماة الشعب يسحلون المصريين ويعرُّون الوطن أمام كل العالم. وطالما أننا أصبحنا جميعاً عراة بفعل النظام وزبانيته أصبحنا لا نستحى، ونفعل ما نشاء فى أى وقت نشاء وبات ينطبق على المصريين الآية الكريمة «يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الأبصار». شباب فى القاهرة يغلقون مجمع التحرير فى وجه المواطنين، فيعطلون المصالح وخدمات ملايين جاءوا للمجمع من شتى المحافظات.. وآخرون فى بنى سويف بينهم ضباط يثأرون بطريقتهم الخاصة لنقيب شهيد ويسحلون البلطجى حسام وصديقته صابرين حتى الموت أمام أعين كبار المسئولين، ووسط هتافات تشيد بالقصاص العادل؟!! وكأن السحل هكذا وبهذه الطريقة الوحشية أصبح قصاصاً وعادلاً فى نظر كثيرين لا يعترفون الآن إلا بشريعة الغاب وسقوط دولة القانون. أما أغرب حالات الجِنان ب«كسر الجميم» فتلك التى تطالب بحل أحزاب تحالف جبهة الإنقاذ، واتهامها بتشكيل جماعة مسلحة تستهدف تخريب البلاد وقلب نظام الحكم بالقوة. حتى محطات الكهرباء أصابها هى الأخرى الجنون وخرج بعضها من الخدمة احتجاجاً على نقص الغاز والسولار والأرض أيضاً تموت عطشاً وكأنها تنتحر بعد أن جفت الترع واحترقت المزروعات واتخربت بيوت الفلاحين بعد أن بلغ عجز المياه سبعة مليارات متر مكعب سنوياً، مرشح للتضاعف خلال العامين القادمين، لتكتمل منظومة الخراب من الانهيار فى عهد «مرسى» و«الإخوان». أما الحالة الأمنية والاجتماعية فقد بلغت ذروتها، فالمجرمون والمنحرفون والمسجلون خطر يزدادون يوماً بعد آخر، وإن كان عددهم الرسمى يزيد على 95 ألفاً إلا أن الآلاف مثلهم طلقاء خارج القضبان لا ترهبهم طبنجات الداخلية وجولاتها التليفزيونية الوهمية فى المحافظات. ومن أشد حالات مصر المجنونة غرابة، ما أتحفنا به وزير التعليم العالى بإعلانه المضحك المبكى عن إنشاء 60 جامعة جديدة خلال عشر سنوات أى بمعدل ست جامعات فى العام الواحد أليس هذا هو الجنان بعينه؟! وقبله سبق وأن أعلن وزير النقل عن مشاورات لشراء قطار فائق السرعة، متجاهلاً كوارث القطارات الحالية التى يجب إعدامها فوراً، وجلب أخرى بديلة تليق بالآدميين. ومن الوزراء إلى مؤسسة الرئاسة، حدث ولا حرج، فعلى الرغم من الأخطاء الجسمية التى ارتكبها الدكتور ياسر على بحق مصر فى شهور المعدودة، تكافئة الرئاسة وتوجه له الشكر على أدائه المتميز، والأفدح أنها تهنئه على ثقة الدكتور هشام قنديل باختياره رئيساً لمركز المعلومات بمجلس الوزراء، رغم إهانته للمؤسسة العسكرية، ناهيك عما حدث بعد فضيحة إقالة مستشار الرئيس خالد علم الدين. إن حالات جنان الدولة رسمياً وشعبياً لا تعد ولا تحصى.. ولكن من المسئول؟ أعتقد أن النظام ليس وحده المتهم دائماً فكل المصريين بمن فيهم الأحزاب والجبهات السياسية والتيارات الدينية المتصارعة على السلطة، فكل يغنى على ليلاه.. لقد تحولنا إلى شعب منتقم جبار، يجلد ذاته، ويحطم كل شىء جيد بفعل التشرذم والانقسام. إن مصر «المجنونة» فى أمس الحاجة إلى جراح ماهر يعيد إلى نظامها الحاكم صوابه، حتى تخرج سالمة من محنتها.. وإن لم يحسم النظام الحالى مشاكله مع جميع التيارات الوطنية السياسية والدينية أعتقد أن المؤسسة العسكرية ستكون جاهزة للتدخل السريع وإجراء جراحة عاجلة لمصر تنقذها من غرفة إنعاش مرسى وجماعته.