فى آخر سنوات الحرب الأهلية فى لبنان.. التى طالت أكثر من 15 سنة مريرة. وفرقت شعب لبنان بالبارود والدماء. ذهبت إلى بيروت برفقة صديقى المصور الفنان الراحل فاروق إبراهيم، فى محاولة لنقل وفهم ما يحدث هناك. ورغم أننى قابلت معظم زعماء الطوائف والفرق والشيع فى لبنان. ومنهم نبيه برى وسليم الحصي. والشيخ حسين فضل الله أول رئيس لحزب الله، كما قابلت الجنرال ميشيل عون وسليمان فرنجية. وحتى فيروز رسولة لبنان إلى القمر، التى أصبحت صديقة قلبى فيما بعد. إلا أن أبلغ تحقيق صحفى كتبته فى غرابة ما كان يجرى فى لبنان، كان عندما فكرت فى زيارة مستشفى الأمراض العقلية فى بيروت، ويطلقون عليه اسم العضورية لأسأل المجانين عن رأيهم فى تلك الحرب، وأسبابها وآثارها الخطيرة! وكان أغرب ما شاهدته عندما ذهبت إلى العضورية، أن المجانين خرجوا من على باب المستشفى الخارجي، اللافتة التى تحمل اسم «العضورية». ووضعوها على ظهر الباب من الداخل، وكأنهم يقولون بصراحة إن «العضورية» مستشفى الأمراض المجانين، هو الذى خارج المستشفي، وليس داخله حيث يعيش المجانين! وبالفعل قال لى مجانين «العضورية»: لسنا نحن المجانين.. بل هؤلاء الذين فى خارج المستشفي.. الذين نسوا أو تناسوا مصلحة بلدهم، من أجل أغراضهم السياسية أو العقائدية، أو مصالحهم الشخصية؟ ولا أعرف ماذا يمكن أن يقول المجانين عما يحدث فى مصر، داخل مستشفى «الخانكة» أو العباسية، عما يحدث الآن فى بلدهم، من أشياء مجنونة لا يمكن أن يستوعبها أحد. فالمشهد العام فى مصر فعلا ينطق بالكثير من الجنون. صراعات واخترافات وتشابكات، لا أحد يعرف بالضبط ماذا يحدث، صراخ واتهامات. ونحن أصبحنا لا نعرف من على حق، ومن على باطل! ماذا يمكن أن يقول أى مجنون لو خرج من «الخانكة» إلى الشارع، وفوجئ ببعض البلطجية المنتشرين فى كل شارع وكل حي، يهددونه بمسدس أو مدفع، وقد يعتدون عليه أو حتى يقتلوه، دون أن يكون هناك من يردعهم أو يمنعهم! ماذا سيقول المرضى العقليون والنفسيون، إذا ذهبوا أى يوم جمعة إلى ميدان التحرير، أو قرأوا كل صباح الجرائد وأخبار الفوضى والخراب، وانتشار الهياج فى البلد، حتى كاد أن يكون عندنا «مسدس لكل مواطن»؟! ماذا سيقول مجانين «الخانكة» عن شاشات الفضائيات والانتهازيين وتجار الثورة؟ أو عن محاولات تقسيم المجتمع المصرى إلى فئات وطوائف ما أنزل الله بها من سلطان؟! بماذا يمكن أن يحكم أى مجنون على ظاهرة «تخوين» المصريين بعضهم لبعض، وأطنان الحبر الأسود التى تلقى كل يوم على ثياب ووجه مصر الجميلة؟ أنا شخصيا والله العظيم. أشعر وأنا أشاهد كل ذلك يحدث أمام عيني، أشعر بأننى أصبحت «عباسية» أو «مناخوليا».. أو «بتنجاني» على أقل تقدير! هل أنت.. مثلي؟! «بتنجاني»؟!