ة غريب نفض عادل عن نفسه الشعور بالضيق وعاد الى المحطة من أجل ان يأخذ بعض الملابس من حقيبته ويتوجه الى أحد الفنادق الرخيصة. في المحطة فوجئ بأن مكتب الأمانات قد أغلق أبوابه وبأنه لن يفتح قبل الصباح. خرج الى الشارع وقد بدأت البرودة تشتد وتغزو عظامه فأحكم لف ملابسه حول نفسه وقام بتقفيل كل أزرار سترته ومع ذلك لم يخف شعوره بالبرد. دخل الى أول فندق صادفه فأخبروه في الاستقبال بعدم وجود غرف خالية.. سار في الشارع الهادئ والذي زاده الجو البارد وحشة حتى لمح لافتة فندق على البعد. توجه اليه وطلب غرفة مفردة فأجابته الفتاة الحسناء خلف المكتب بأن سعر الغرفة في الليلة هو ثمانون جنيهاً استرلينياً. قام بعمل حسبة صغيرة فأدرك ان ما معه من نقود لن يكفيه خمس ليال دون أكل أو شرب... وهو على أي حال لم يعمل حساب هذا لأن الفلوس التي بحوزته مخصصة للتسوق وشراء الملابس من المحلات التي سيأخذه اليها نجم.. آه أين أنت يا أبا النجوم؟!. خرج من ردهة الفندق في حيرة وشعر ان تفكيره مشوشاً بفعل البرد ثم بدأ المطر يهطل وهو لم يستعد حتى بإحضار مظلة، وساهم الشعور بالجوع في خفض معنوياته، ثم وجد ان أفضل ما يفعله هو ان يعود الى المحطة يحتمي بها فأسرع الخطى وقد ابتلت ملابسه وأحس أنه يأخذ دشأً مثلجاً. دخل الى المحطة يلهث فوجدها صامتة بعد ان هدأ الضجيج الذي كان يلفها وقد كادت تخلو من الناس ووجد بعض الهائمين يجلسون متناثرين اما على دكة خشبية أو بالمقهى الوحيد الذي كان لايزال يعمل.. وكان هناك من المشردين من أعد لنفسه فرشة الى جوار أحد الأعمدة على الأرض واستلقى في هدوء. جلس داخل المقهى وطلب شريحة بيتزا وكوباً من القهوة القوية وأخذ يفكر في تكملة الرحلة على أسس جديدة بعد ان فقد الأمل في لقاء نجم. عقد العزم على تمضية الليلة بالمحطة حتى الصباح ثم البحث من خلال مكتب الاستعلامات عن أحد بيوت الشباب حيث يضع حقيبته ويأخذ حماماً ساخناً ويستمتع بتناول الوجبات الكاملة الرخيصة التي تقدمها هذه البيوت في خدمة حقيقية للشباب تساعدهم على التجوال والسفر بما لا يجهد ميزانيتهم المحدودة.. وتذكر عادل أنه شخصياً قد قضى أياماً جميلة في بيوت الشباب في فيينا وبرلين وزيورخ وأمستردام. قطع عليه استرساله في أفكاره صوت اقتراب خطوات منه. نظر الى جانبه فأبصر رجلاً فخماً أنيق الهندام يرتدي بدلة كاملة ومعطفاً من الصوف الانجليزي الأسود. حياه الرجل قائلاً: هاللو. فرد التحية وانصرف الى طعامه. سحب الرجل كرسياً وجلس في مواجهته وهو يبتسم في تودد. قال الرجل: هل تريد مزيداً من الطعام؟. رد عادل في دهشة: ماذا؟ هل أريد مزيداً من الطعام؟ من تكون؟ هل أنت نادل في المطعم تهتم بطلبات الزبائن أم ماذا؟. قال الرجل في هدوء: أنا شخص يشعر بالوحدة ويريد ان يجد من يقضي معه وقتاً طيباً، فهل تسمح بمرافقتي وأعدك بتلبية كل طلباتك من طعام وشراب وملابس، ويمكنك طبعاً ان تبيت معي بالبيت.. قال جملته الأخيرة وعلى شفتيه ابتسامة لعوب!. شعر عادل بالقلق وقد أدرك ما يرمي اليه الرجل، وكانت لديه عقدة من أمثال هذا الرجل الذي صادف مثله كثيراً أثناء رحلاته وتسكعاته في مدن الغرب.. طاف بخيال عادل ان السكن والاستقرار كفيلان وحدهما بألا يلتقي بهذه الأصناف أبداً، وتذكر ان المرات التي نزل فيها في الفنادق كسائح محترم لم يصادف خلالها أحداً من هؤلاء. أما حياة التسكع والنوم في محطات القطارات وتحت الأشجار في الحدائق فهي التي تغري هؤلاء الشواذ بالخروج وتصيد الرفاق من بين المشردين والجائعين والباحثين عن مأوى. نظر للرجل وقال له في جدية: هل تعرف أين يمكن ان يكون نجم قد ذهب هذه الليلة؟ رد الرجل في دهشة: ماذا؟ قال عادل: أنا محتار في أمره.. هل يمكن ان يكون قد سافر خارج لندن؟. ابتلع الرجل دهشته ثم قرر التجاوب مع تخاريف عادل على أمل ان توصله الى غرضه فقال: ربما كان قد ذهب الى «برايتون» لقضاء اجازة ولن يعود قريباً ثم أردف: لكن لئن كان نجم قد ذهب فان ريتشارد (وأشار الى نفسه) موجود وتحت أمرك. نظر اليه عادل في غضب وقال بصوت أفزع الرجل: اذهب وابحث في مكان آخر يا (...) يا ابن ال(....).. كان عادل ضليعاً في الشتائم الا نجليزية والأمريكية بكل أشكالها، وقد انتقى منها أقذرها مما حدا بالرجل الى ان يبتعد وقد اكفهر وجهه!. نقلا عن صحيفة الوطن الكويتية