أشرت في مقال الأسبوع الماضي إلى أن هناك ممانعة لدى البعض من فكرة النظام السياسي الإسلامي بسبب جمود هذا النظام عند قوالب محددة ارتبطت في معظمها بممارسة السلطة القائمة. وبجمود الفكر السياسي الإسلامي عند صور هي أقرب للتاريخ منها إلى التطبيق العملي لهذا النظام في مرحلته التي يمر بها، وهذه الحالة ليست وليدة العصور المتأخرة فقط، بل شكا ابن القيم في عصره (القرن الثامن الهجري) من جمود فقهاء زمنه، حتى إنهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا (قوانين سياسية) بمعزل عن الشرع، وحمل ابن القيم الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الأمراء والحكام وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة، ويبدو أن هذا الجمود الفكري استمر لعصور طويلة كانت معظم الكتابات فيها إما للتقرير أو للتبرير، أي إما لغلبة التاريخ على الرأي والاجتهاد بحيث اعتبر التاريخ هو مصدر «الشرعية» للنص في الشأن السياسي، عكس ما كان يجب يحدث أي بتبعية التاريخ للنص، أما التبرير فهو تبرير الواقع بحيث أعطيت «الشرعية» لممارسات سياسية يخالف بعضها المبادئ العامة التي جاء الإسلام من أجلها، ولولا كتابات متفرقة في الشأن السياسي الإسلامي نجدها موزعة عبر سنوات متفرقة من تاريخ المسلمين لخلا الاجتهاد في الشأن السياسي الإسلامي، فكتابات الماوردي وأبويعلى الفراء وإمام الحرمين الجويني وابن جماعة ويحيى بن الحكم الغزال وابن قتيبة وعدد قليل من الفقهاء الذين اجتهدوا في الشأن السياسي،لولا كتابات هؤلاء لخلا الفكر الإسلامي القديم من البحث في الشأن السياسي، كما أن الفقه السياسي لم يأخذ مكانا واضح متميزا في كتب التراث، حيث توزعت أحكامه في أبواب كثيرة من كتب الحديث والفقه، ولم يحظ إلا بالقليل من الكتابات المتخصصة، ورغم محاولات لبعض المفكرين والمجتهدين في العصور المتأخرة لبحث هذا الأمر فإن تلك الكتابات لا تقارن باجتهاد المسلمين في أبواب أخرى مثل العقيدة والعبادات، علما بأن الحاجة للاجتهاد في أبواب العقيدة والعبادات -مثلا- أقل منها في المعاملات والنظم ومن بينها النظام السياسي حيث تكثر المستجدات، بل إن بعض الذين يكتبون أو يتصدون للفكر السياسي الإسلامي المعاصر لا يتجاوزون ما كتبه السابقون منهم، فما زالوا محكومين بالتاريخ أكثر من تعاملهم مع الواقع والعصر الذي يعيشون فيه، ونلاحظ ذلك في قضايا كثيرة لم تحسم لديهم مثل الموقف من الديمقراطية، والمشاركة السياسية وطبيعة العلاقة بين الفرد والنظام السياسي، وفكرة المواطنة والعلاقة بين الدولة القطرية ومفهوم الأمة الشامل، ومكان المرأة في النظام السياسي، وكذا موقع الأقليات في ذلك، وغيرها من القضايا التي ما زالت الكتابة فيها تأخذ منحى العموميات أكثر من التحديد ودون أن يكون هناك رأي واضح أو متفق عليه، ولذا فإن عدم بلورة تصور واضح للفكر السياسي الإسلامي بحيث يمكن تطبيقه على الواقع، يجعل من الداعين لهذا الفكر في موقف مضطرب ويعزز من موقف الرافضين له، لكن الموقف يتعقد أكثر حين ينبري من يرى أن الأوضاع القائمة الآن لا تصلح لتطبيق هذا النظام، ولا يأتي هذا الرفض من المخالفين لفكرة النظام السياسي الإسلامي بل من «أشد» الداعين للتمسك بالإسلام. إذ إن هناك تيارات أخرى لا ترى إمكانية العمل بالنظام الإسلامي في ظل الأوضاع القائمة لأنها -كما تراها- غير إسلامية ومخالفة «بجملتها» للإسلام، ولا يمكن بهذه الحالة طرح جانب من الإسلام (أي النظام السياسي) للتطبيق في بيئة غير صالحة له!! ولذا فهي تعمل على تغيير الواقع -بجملته- ليكون مهيئا لتطبيق النظام السياسي الإسلامي، وأخذ هؤلاء طريقا آخر اتسم بالقوة والعنف والتشدد في تعاملهم مع الواقع الذي يعيشونه في البلدان الإسلامية، ولم يهتموا ببحث أي جانب جزئي من الإسلام قبل تغيير الواقع كما يرون، ويعبر عن هذا الاتجاه بعض التيارات المتشددة التي ينتمي بعضها لما يسمى بالسلفية الجهادية وجماعة التكفير والهجرة التي ترى وجوب تغيير الواقع بما فيه من أنظمة حتى يتهيأ لها تطبيق الإسلام، وليس النظام السياسي فقط، كما ترى ذلك. وإذا كانت هذه الاتجاهات لا تحدد رؤية نحو النظام السياسي الإسلامي المعاصر، فإن هذا النظام ما زال مثقلا بإرث تاريخي يمنعه من التحرك والانطلاق في مسيرته نحو التطبيق المعاصر، فقد ارتبط النظام السياسي في حياة البشرية بالتاريخ أكثر مما ارتبط بالنصوص، وليس ذلك حكرا على دين دون آخر، أو ملة دون غيرها، أو شعب دون سواه، بل هو نسق عام شمل مختلف الأزمنة والدول والبيئات. والنظام السياسي الإسلامي واحد من هذه الأنظمة التي ارتبطت بالتاريخ كثيرا، بيد أنه يختلف عن غيره من الأنظمة بمرجعيته الثابتة والمستقر، لكن الاستلال من المرجعية يحتاج إلى إعمال نظر وبحث واجتهاد، وعدم الاعتماد على الآراء التي رسمها الفقهاء قديما، بل لا بد من فهم جديد ومعاصر يأخذ بدلالات النصوص وينزلها على الواقع حتى يكون هذا النظام قابلا للتطبيق، وحتى لا يبقى النظام السياسي الإسلامي أسيرا للتاريخ. نقلا عن صحيفة العرب القطرية