بحكم انتماء مصر العربي، وموقعها الاستراتيجي، وتراثها الحضاري، وقدراتها البشرية، وإمكاناتها المادية كان لها عبر التاريخ العربي دورها القومي . ولعل أدق من عبر عن هذا الدور الأديب والمؤرخ الفرنسي “بنوا ميشان”، بقوله “مصر مخ العرب الذي يستشعر ما تحسه أعضاء الجسد فيدرك ويوجهها فتستجيب” . وعلى مدى تاريخ مصر شكّلت جبهة سيناء مصدر الخطر الأكبر على أمن مصر وأمان مواطنيها وعمرانها الحضاري . فيما كانت أرض فلسطين وما وراءها من بلاد الشام، ميدان تصدي مصر للغزاة من الغرب الأوروبي الاستعماري أجاؤوا من الغرب أم من الشرق الآسيوي المتخلف، بدليل أن جميع معارك مصر التاريخية وقعت على أرض فلسطين وفي أعماق بلاد الشام . والثابت تاريخياً أنه كلما نمت فعالية مصر القطرية توجهت نحو المشرق العربي واستنهضت قواه الذاتية، وكلما ضعفت انكفأت داخل حدودها القطرية وتشرذم المشرق العربي، وشاعت فيه الصراعات اللامجدية، ثم ارتد الوهن على مصر . وكان عبدالناصر قد أوضح في كتاب “فلسفة الثورة” أن لمصر دور في ثلاثة دوائر: عربية وإسلامية وإفريقية، وعلى مدى سنوات رئاسته مارست مصر فاعلية مؤثرة في الدوائر الثلاث . وحتى الساعات الأخيرة من حياته ظلت مصر بقيادته صاحبة الدور الأول في حياة الأمة العربية . فحين دعا إلى مؤتمر قمة طارىء لوقف الصراع الدامي في الأردن، استجاب الملوك والرؤساء مدللين بذلك على أن النكسة وتداعياتها لم تؤثرا بدوره القومي القيادي . صحيح أنه انتقل إلى الرفيق الأعلى والقوات الصهيونية تحتل سيناء والضفة الشرقية لقناة السويس، لكن مصر كانت قد أعادت بناء وتسليح جيشها، وحققت إنجازات ملحوظة في حرب الاستنزاف، وأعدت خطة العبور، وقد تحمل اقتصادها أعباء الحرب ومتطلبات العيش الكريم . بل وكان أحد اقتصادات آسيا وإفريقيا الناهضة التي تحقق نمواً مطرداً، بحيث يمكن القول إن المرحلة الناصرية أورثت السادات واقعاً وطنياً ودوراً قومياً نابضين بالحياة . ولكن السادات بدّد إنجازات المرحلة الناصرية، فالجيش الذي أَعد لتحرير سيناء أَوقف تقدمه قبل المضائق، وبعدم استخدام الهجوم المضاد لاختراق كان متوقعاً لموقع الدفرسوار جرى تطويق الجيش الثالث، وانتهت الحرب لمصلحة العدو، كما يقرر الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته . وباعتماد السادات “الانفتاح” الاقتصادي فكّك ناهبو القطاع العام البنى الاقتصادية والاجتماعية للمرحلة الناصرية . بل وأضعفوا قدرات مصر الإنتاجية، ما اضطرها إلى قبول “المساعدات” و”المعونات” و”قروض” البنك الدولي، وحولها إلى “دولة وظيفية” تابعة، فاقدة حرية الإدارة واستقلال القرارات السياسية والاقتصادية التي غدت رهناً بإرادة الإرادة والأجهزة الأمريكية صاحبة القول الفصل في توفير “المساعدات” و”المعونات” والقروض على اختلاف مصادرها . وفضلاً عن تحويل مصر إلى “دولة وظيفية”، انتهت “مبادرة” السادات بزيارة القدسالمحتلة إلى موافقته على اتفاقيتي “كامب ديفيد” وتوقيعه صلحاً منفرداً مع الكيان الصهيوني، مثقلاً بالاشتراطات التي تنتقص من سيادة مصر على ترابها الوطني في سيناء المجردة أغلبيتها من السلاح، والخاضعة كلياً لرقابة دولية بقيادة أمريكية، ما ضاعف من الآثار السلبية لتحويل مصر القسري إلى دولة “وظيفية تابعة” . والآن وقد آلت السلطة بمصر إلى الإخوان المسلمين وحلفائهم السلفيين الذين غدوا متفردين بصناعة القرارات على مختلف الصعد، فأي الدورين المصريين من المتوقع أن يختار الرئيس محمد مرسي وإخوانه: الدور القومي الفاعل عربياً وإفريقياً وإسلامياً، أم الدور الوظيفي التابع؟ سؤال الإجابة عنه رهن بما يفعله التحالف الإسلامي الحاكم على المحاور الثلاثة الآتية: 1 - محور الصراع العربي - الصهيوني: مذكرين محمد بديع وإخوانه في “مكتب الإرشاد” أن صفقة الأسلحة التشيكية التي أعلن عنها عبدالناصر في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول ،1955 أحدثت تحولاً كيفياً في موقف جماهير مصر وأمتها العربية من عبدالناصر وثورة 23 يوليو/تموز 1952 . إذ تراجعت تماماً، أو كادت، حملات نقد النظام التي اشتدت بتأثير أزمة مارس/آذار 1954 . ما فيه الدلالة الواضحة على أن شعب مصر وشعوب الأمة العربية تتقدم عندها حماية السيادة الوطنية والقومية، وامتلاك المنعة في مواجهة الضغوط والمداخلات الخارجية، على توفير آليات النظام الديمقراطي . ذلك بأنه ليس هناك من ديمقراطية ولاحريات عامة أو خاصة في ظل التبعية، وهذا هو الدرس المصري الأول الذي على الإخوان والسلفيين، قادة وقواعد، أن يعوه إن هم أرادوا أن تدوم سلطتهم في أرض العرب . 2 - محور التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية: مذكرين بأن “المعونات” و”المساعدات” و”القروض” قد تؤدي إلى انفراج أزمات اقتصادية واجتماعية مهددة بالانفجار، ولكنها لم تحقق يوماً، وفي أي بلد، تنمية اقتصادية مستدامة، لأنها جميعها ذات ثمن سياسي يتقاضاه المتحكم بمصادر التمويل الأجنبي الذي يهمه أن يبقي متلقي المعونات محتاجاً إلى دعمه، وهو لا يفرط بمصدر قوّته المتمثل بعدم تمكين الدولة الوظيفية من تنمية اقتصادها بحيث تكسر التبعية . وليس من شعب بنى اقتصاده بإحسانات الآخرين، والشعوب لا تأكل من الخطب والبيانات حتى وإن كانت صادقة التعبير عن طموحاتها، ويذكر لجبران خليل جبران قوله: “ويل لشعب يأكل مما لا يزرع ويلبس مما لا ينسج” . 3 - محور التعبير عن الإسلام في ضوء مأثوراته: مذكرين بأن الإسلام إنما جاء فجراً حضارياً ورسالة تحرر فردي ومجتمعي . وبه أمتلك عرب شبه الجزيرة الطاقة الروحية التي مكنتهم من تحرير بقية الوطن العربي من الاحتلالين الفارسي والبيزنطي، وإطلاق طاقات شعوبه الإبداعية بحيث غدا مركز الإشعاع الحضاري الأول المستقطب للمبدعين من مختلف ديار الإسلام . ولكن العصر العربي الذهبي فوجئ باستقدام الخليفة العباسي المعتصم للترك والديلم الذين قال فيهم الإمام محمد عبده: “لبسوا الإسلام على أبدانهم ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم” . ولم يلبثوا أن سيطروا على مقدرات دولة الخلافة، دون أن يكونوا مؤهلين للحكم الرشيد، بحيث كرسوا الجهل والتعصب الأعمى والجمود . وليس لمصر بقيادة الإخوان دور يذكر إلا بما ينجزونه عملياً على المحاور الثلاثة، وإلا فدور مصر في ظلهم لن يكون إلا دوراً وظيفياً في خدمة من يطعمهم من جوع ويؤمنهم من ثورة جماهير شعب مصر وأمتها العربية . نقلا عن صحيفة الخليج