لم يكن الدور المصرى فى فلسطين وليداً لثورة يوليو 1952، ولا تعبيراً عن رؤية ذاتية للزعيم جمال عبدالناصر، ولم يكن كذلك تعبيراً عن رؤية انتماء لأيديولوجيا القومية العربية أو رغبة فى تضامن عربى - رغم أهمية ذلك - إلا أنه كان تعبيراً عن العامل الجغرافى - السياسى "الجيوبوليتيكى"، ذلك العامل المشكل من عنصرين متمايزين ومتكاملين: الأمن المصرى، ورؤية مصر لدورها الإقليمى الذى تستحق أن تشغله فى المنطقة، ومؤشرات هذا الدور واضحة جلية فى التاريخ، ويهمنا أن نشير إلى بعضها فى التاريخ الحديث مثل دور مصر فى ظل حكم محمد على ودور إبراهيم باشا ولده، وكذلك الدور المصرى المميز الذى عبرعن ذاته بأدوات القوة الناعمة من أزهر وبعثات تعليمية ومجلات ثقافية والمشاركة فى تأسيس جامعة الدول العربية وصناعة السينما والأغنية وفن المسرح ودور الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وقد رأى عبدالناصر مشكلة واضحة فى الأمن المصرى، عبر عنها فى حديثه للصحفى البريطانى توم ليتل فى الخمسينيات، مستخلصاً تجربته عندما كان معلما فى كلية أركان الحرب المصرية، وكان يعمل على تخطيط مشروع للدفاع عن مصر ضد هجوم مفترض من شرقيها، حيث تبين له - حسب قوله - أن حدود مصر الدولية من رفح شمالاً إلى طابا جنوباً، غير قابلة للدفاع عنها، فهى مجرد خط على الرمال لا يتشكل من معالم جغرافية أو طبوغرافية وبالتالى يفتقر إلى الموانع الطبيعية.. وأن منطقة الممرات الوعرة فى وسط شبه جزيرة سيناء لا تصلح خطاً دفاعياً يركن إليه نظراً لما يتخللها من ثغرات وفجوات طبوغرافية، وبالتالى فإن خط الدفاع الأول عن مصر هو قناة السويس، ويعنى ذلك أن تكون شبه جزيرة سيناء بأكملها خارج سياق دفاعات الجيش المصرى، أى خارج السيادة المصرية من المنظور العسكرى، ورتب ذلك فى ذهنية جمال عبدالناصر هو أن خط الدفاع الأول عن مصر من الشرق هو فلسطين، وبالتالى الأمن المصرى يعتبر مكشوفاً ومعرضاً للخطر إذا قامت دولة هناك، دولة معادية أو وقعت فلسطين تحت الاحتلال. أما عن دور ومركز مصر الإقليمى فيظهر واضحاً فى الرفض المصرى الواضح والقوى لما عرضته القوى الغربية من مشاريع لأمن الشرق الأوسط، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو رفض صدر عن حكومات مصرية متنوعة الاتجاهات من قبل الثورة وبعدها، وقد كان موقف الثورة ضد حلف بغداد والحلف الإسلامى وكذلك مقاومة مصر لمشروع الهلال الخصيب الذى كان يرمى إلى تعزيز الدور الإقليمى للعراق، ولمشروع سوريا الكبرى الذى كان يستهدف تعزيز دور سوريا. نستخلص من ذلك أن مصر تعمل على بناء نفوذ إقليمى لها تستند فيه على الجغرافيا والتاريخ والمكانة وأدوات القوة وكذلك على الوزن البشرى - الحضارى فى المنطقة، لذلك إذا نظرنا إلى الدور المصرى فى فلسطين من هذا المنظور الجيوبولتيكى، نجد أن مصر لم تخض حروبا من أجل فلسطين إنما خاضتها من أجل أمنها الوطنى ومن أجل الدفاع عن خط دفاعها الأول فى فلسطين حتى لا تكون مكشوفة ولا معرضة للانكشاف وحتى لا يتم إضعاف الدور المصرى فى المنطقة. ومما لا ريب فيه، فإنه قد حلت بالدور المصرى مخاطر جسيمة من جراء التفريط الذى حدث بهذا الدور من جراء توقيع كامب ديفيد ومن جراء عدم وجود قراءة جادة من قبل المخططين الاستراتيجيين المصريين تجاه المتغيرات الدولية وتأثيراتها على الدور المصرى فى ظل كامب ديفيد وتأثيراتها على الدور العربى لمصر، وقد ظهر ذلك واضحاً من سلوك مصر تجاه القضية الفلسطينية، وبالذات بعد أن صارت مصر فى تلك السياسة الأمريكية الإسرائيلية فى المنطقة، والدراسة الجادة لهذا السلوك سوف تكشف عن التناقض الذى حدث بشأن الأمن المصرى والمخاطر التى أحاطت به، ومن المؤكد أن هذا الاستنتاج يحتاج إلى دراسة تفصيلية لمسار السلوك المصرى من توقيع كامب ديفيد حتى الآن. لكن ما يهمنا الآن هو ما وقع من محرقة - حسب التعبير الإسرائيلى - لغزة، ودور مصر فى الاتصالات الجارية مع حماس والسلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، حيث يتلخص الفهم المصرى للمشكلة القائمة حالياً فى محورين، أولهما معالجة أمر الحصار المضروب على غزة من قبل إسرائيل، حيث تبين لمصر أن الأزمة الداخلية الفلسطينية من حماس وفتح والحصار المضروب على غزة قد أثر كثيراً على الأمن المصرى وزاد من المخاطر الحالة على الحدود الشرقية لمصر، كما أنه أثر كثيراً على الداخل المصرى سواء عبر حميمية العلاقة بين الشعب المصرى والشعب الفلسطينى وبالذات فى غزة، أو بالامتداد التنظيمى للإخوان المسلمين المتمثل بحركة حماس، وهكذا صارت القضية الفلسطينية قضية مصر أكثر من أى وقت مضى، ومن هنا فإن معالجة أمر الحصار صارت مطلباً عاجلاً، ومن هنا نستطيع أن نفهم التحركات التى حدثت بعد محرقة غزة وكان منها الاتصالات المصرية الأمريكية والمصرية الإسرائيلية والمصرية الأوروبية والمصرية الحمساوية والمصرية الفلسطينية، أى مع السلطة الفلسطينية، وكلها تعمل على إيجاد مخرج لقضية الحصار والمعابر. إلا أن الدور المصرى بشأن فلسطين سوف يظل يعانى من الالتباس الواقع بين دور مصر القيادى فى أمتها العربية ودورها القيادى فى المنطقة، وبين دورها فى التسوية مع إسرائيل العاملة على احتلال دور مصر فى المنطقة.