أثار مقال الأسبوع الماضى ردود أفعال متباينة، وهو أمر كان متوقعا إلى حد كبير. فالمقال، وعنوانه «هل لا تزال فلسطين قضية مصرية ومصيرية؟»، كتب قبل يوم واحد من قيام إسرائيل بشن عدوانها الوحشى على قطاع غزة، وعندما أصبح فى متناول القراء كانت آلة القتل الإسرائيلية قد أطلقت من عقالها، وراحت تعيث فساداً فى غزة مثيرة ردود أفعال شعبية ورسمية واسعة النطاق. ولأن المقال المشار إليه كان يدور حول موقف النظام الحاكم فى مصر مما يجرى فى قطاع غزة، وانتهى إلى أن سياسة الحصار التى يشارك فى فرضها تبدو «غير أخلاقية وغير وطنية»، وتصادف نشره فى لحظة كانت فيها أصابع الاتهام توجه لهذا النظام وتعتبره شريكاً متواطئاً مع العدوان الإسرائيلى، فقد كان من المتوقع أن تتسم بعض التعليقات بقدر من الانفعال! ورغم أن معظمها بدا مؤيداً لما انتهينا إليه، فإن بعضها الآخر بدا متحفظاً أو معترضاً عليه بشدة. لفت نظرى تعليقان، كتبا باللغة الإنجليزية، أحدهما حمل توقيع Sadouni، والآخر السفير الدكتور صفوت أيوب، الذى ذكرنى فى تعليقه بأنه كان زميل دراسة فى جامعة السوربون فى بداية السبعينيات! تعليق الأستاذ سعدونى (؟) كان غاضباً لدرجة أنه أنهاه بعبارة تقول: «إن ضحالة تحليلات الأكاديميين تدفعنى للاعتقاد بأن النظم السياسية الفاسدة والمستبدة ربما تكون أرحم بنا»! وبعد أن ذكرنى بصفتى الأكاديمية، وبأننى لم أدخل العوامل الجيوسياسية والاقتصادية فى اعتبارى، راح يوجه إلىَّ مجموعة أسئلة تدور حول موقع المصالح الاقتصادية المصرية، وتعريفى للمصلحة الوطنية، وما إذا كنت أطالب بخرق مصر معاهدة السلام التى أبرمتها مع إسرائيل، وبانتهاج سياسة تتوافق مع سياسة حماس التى تستخدمها إيران أداة لتمرير مخططاتها فى المنطقة.. إلخ. أما الدكتور صفوت أيوب فقد أشار فى تعليقه إلى أنه يختلف معى فى كثير مما قلت، وأكد أن فلسطين كانت، ولاتزال، تتصدر جدول أعمال سياسة مصر الخارجية، وذكَّرنى بوقائع يعتبرها حقائق لا تقبل الجدل منها: أن مصر ضحت بجزء كبير من مواردها وبأرواح مئات الآلاف من أبنائها من أجل فلسطين، وبأن عرفات رفض الاستجابة لدعوة السادات لحضور مؤتمر مينا هاوس، ثم عاد واعترف لاحقاً بخطأ موقفه، وتساءل مستنكراً عما إذا كنت أعتقد أنه كان يتعين على مصر أن تنتظر إلى الآن، وربما إلى الأبد، قبل أن تتحرك لتحرير أرضها المحتلة.. إلخ. لا تنطوى الآراء المتضمَّنة فى هذين التعليقين على أى جديد لكنها تعكس وجهة نظر تيار معين على الساحة المصرية. ورغم اختلافى الكامل مع وجهة نظر هذا التيار- وهو ما يبدو واضحاً تماماً من كل كتاباتى السابقة حول الموضوع، فإننى أتعامل معها بكل جدية، وبعيداً عن أى تهوين أو تخوين. لذا أعتقد أن الواجب، خصوصاً فى تلك اللحظة الراهنة بالغة الحساسية، يفرض علىّ إعادة التذكير بالمعالم الأساسية بوجهة نظرى فى هذا الموضوع، وذلك على النحو التالى: 1- ليس من حق أحد أن يدعى أن وجهة نظره ومواقفه السياسية هى وحدها المعبرة عن «المصلحة الوطنية»، وأن ما عداها ليس كذلك لأن من حق كل شخص أو تيار أن تكون له رؤية خاصة به عن هذه المصلحة وعن الوسائل والسياسات الأقدر على تحقيقها. وحيث إنه يصعب اعتبار المواقف والسياسات الرسمية لأى نظام سياسى معبرة عن مجمل «المصالح الوطنية» للمجتمع الذى تتحدث باسمه، إلا فى حالة واحدة فقط هى أن تكون مؤسساته مجسدة لإرادة شعبية، تم التعبير عنها من خلال انتخابات حرة ونزيهة، فمن الصعب الادعاء بأن سياسات النظام السياسى المصرى الراهن أو غيره من النظم السياسية العربية، تعبر بحق عن المصالح الوطنية لشعوبها! ومن المفارقات أن تكون حماس، التى تُوَجَّه لها اتهامات بالتطرف، هى أحد الأطراف القليلة جدا التى وصلت إلى «السلطة» عبر انتخابات حرة ونزيهة. 2- انخراط مصر فى الصراع مع إسرائيل ومشاركتها فى حرب 48 لم يكن ناجماً عن رغبة فى التضامن مع شعب عربى صاحب قضية عادلة بقدر ما كان ناجماً عن مخاوف النخبة الحاكمة فى ذلك الوقت، والتى من المؤكد أنها كانت أقرب إلى نبض الشارع المصرى من نخبة هذه الأيام، مما كان يمثله قيام دولة يهودية مرتبطة بالمصالح الاستعمارية على حدود مصر الشرقية من تهديد بالنسبة لأمنها الوطنى. ولأن الحركة الوطنية الفلسطينية وحركات التحرر الوطنى فى الدول العربية الأخرى كانت تستشعر ذات التهديد، فقد كان من الطبيعى أن تتحالف معها مصر لمواجهة ما كانت الأطراف كافة تعتبره تهديداً مشتركاً. وفى تقديرى أن السياسة التى تبناها عبدالناصر بعد قيام ثورة يوليو لم تكن سوى تعبير عن ثوابت السياسة الخارجية المصرية، وبالتالى أصبحت امتداداً طبيعياً لها. أما السياسة التى انتهجها السادات واستمرت مع مبارك فقد شكلت قطيعة كاملة مع هذه الثوابت، ولأنها سياسة فردية لم يتم التصويت عليها شعبياً فهى لا تعبر بالضرورة عن المصالح الوطنية المصرية. 3- يدرك الدارسون للسياسة المصرية تجاه تطور الصراع العربى الإسرائيلى فى مراحله المختلفة، سواء قبل ثورة يوليو أو فى المرحلة الناصرية، أن مصر سعت بجدية للتوصل إلى تسوية شاملة ودائمة لهذا الصراع على أساس القبول بإسرائيل كدولة مستقلة فى المنطقة فى الحدود المبينة فى قرار التقسيم، إذا ما وافقت على تنفيذ قرارات الأممالمتحدة بعودة اللاجئين وقبلت بتواصل مصر الجغرافى مع المشرق العربى. ورغم أن هذا التصور المصرى للتسوية لم يكن يستجيب لكل المطالب الفلسطينية المشروعة فى ذلك الوقت فإن مصر كانت مستعدة تماماً، قبل الثورة وبعدها، للعمل على إقناع الدول العربية به كحل وسط تاريخى لكل من المسألتين اليهودية والفلسطينية. غير أن إسرائيل رفضت التجاوب مع حلول من هذا النوع لسبب بسيط جداً، هو أن المشروع الصهيونى لم يصمم كحل للمسألة اليهودية، ولكنه صمم فى إطار خطط استعمارية أوروبية استهدفت تفتيت الإمبراطورية العثمانية والحيلولة دون قيام دولة كبرى بديلة فى هذه المنطقة. 4- عندما قامت إسرائيل بتخطيط وتنفيذ عمليات تخريبية فى مصر فى بداية الخمسينيات (فضيحة لافون) ثم قامت بعد ذلك بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا لغزو مصر وإسقاط عبدالناصر، لم يكن ذلك رداً على تصعيد مصرى فى مواجهة إسرائيل، ولكن للحيلولة دون جلاء القوات البريطانية ولمنع مصر من الانطلاق على طريق التنمية قبل التوقيع على معاهدة سلام منفرد بالشروط الإسرائيلية. 5- الانتقادات التى مازلت أصر على توجيهها لسياسة الرئيس السادات فى إدارة الصراع مع إسرائيل، وبالذات بعد قراره بزيارة القدس عام 77 وإبرام معاهدة سلام منفردة معها، كانت تنطلق من اعتبارات تتعلق برؤيتى الشخصية للمصالح الوطنية المصرية أولاً وقبل كل شىء (راجع كتابنا «مصر والصراع العربى الإسرائيلى: من الصراع المحتوم إلى التسوية المستحيلة» المنشور عام 1984). ولم تكن استقالة إسماعيل فهمى، احتجاجا على زيارة القدس، ثم محمد إبراهيم كامل، احتجاجاً على اتفاقيتى كامب ديفيد التى شارك فى مفاوضاتها التمهيدية، إلا تعبيراً عن رؤية لمصالح وطنية مصرية خالصة بعيداً عن أى اعتبارات عقائدية أو أيديولوجية. 6- تؤكد السياسات التى انتهجتها إسرائيل تجاه مصر بعد التوقيع على معاهدة «السلام» أنها لم تختلف عن سياساتها السابقة وأن هذه الدولة لاتزال فى مرحلة «إدارة الصراع» وليس حله، وتتعامل مع مصر باعتبارها التهديد الأكبر على أمنها والذى لن يتحقق إلا عندما تنجح فى تفتيت المنطقة بأسرها، ومنها مصر، إلى دويلات طائفية. 7- توجيه الانتقادات إلى سياسات مصر الراهنة، والتى تتعامل مع حماس باعتبارها امتداداً لإخوان المسلمين وليس امتداداً طبيعياً للحركة الوطنية المصرية، لا يعنى بالضرورة تأييداً للسياسات التى تنتهجها الأطراف الأخرى، عربية كانت أو غير عربية، بما فيها سياسة حماس والسلطة الفلسطينية. لكن أى سياسة من شأنها أن تضع مصر أو أى دولة عربية أخرى، بوعى أو دون وعى، فى نفس الخندق الذى تقف فيه إسرائيل لا يمكن أن تكون، من وجهة نظرنا، إلا سياسة قصيرة النظر، وتبدو مدفوعة باعتبارات ومصالح أخرى غير المصالح الوطنية أو القومية. وبوسع مصر أن تنتهج سياسات بديلة تكبح جماح إسرائيل دون تعريض أمنها الوطنى للخطر. من هذا المنظور مازلت على قناعتى التامة بأن سياسة مصر تجاه المعابر والحصار وحماس، تضر بالمصالح الوطنية أولاً وقبل كل شىء وتساهم، بوعى أو دون وعى فى تشجيع إسرائيل على ارتكاب العدوان. والقادم أسوأ كثيراً مما مضى!