كانت المسافة بينه وبين المعتصمين الرافضين للدستور فى التحرير تتعادل تقريبا مع المسافة بينه وبين المتجمهرين من جماعة الاخوان أمام مسجد رابعة العدوية. ولكن ما بين المسافتين كان كنقطة حائرة بلا حرف، نقطة منفصلة تماما عما يحدث هنا أو هناك، كان خارجا لتوه من حارة جانبية ليتلقفه الشارع العمومى بسياراته المندفعة، وهو يحارب اندفاعها وزحام المارة ليمرق بما يجره خلفه تارة ويدفعه أمامه تارة اخرى، «برميل» ثقيل ملىء بسلعة لم يعد لها رواج، وقد تقمص دور «الدابة» التى خلقها الله للقيام بهذا الدور تكريما للانسان، كان رجلا خارج المشهد، لكنه يمثل اصل الصورة، صورة المصرى المطحون فى كل العقود دون أن يشعر به أى مسئول، حتى وإن هوت أنظمة وصعدت أخرى.. وكان الحوار. - عبده يوسف على، عمرى يجى تمانين سنة. - أعمل ايه يا بنتى، مش فى ايدى حاجة، سنين طويلة وأنا باحاول أجمع لى قرشين عشان اشترى حمار يجر العربية دى بدالي، وما قدرتش، أجيب تمن حمار منين، وأدينى أهو من سنين وأنا بالف على كعوب رجليا وأجر العربية بدل الحمار عشان أبيع «الجاز». - لا والله «الجاز» دلوقتى ما بقاش له زبون زى زمان ، زمان كان فيه بوابير الجاز واللومد «يقصد لمبات» اللى بتشتغل بالجاز، ودلوقتى كل حاجة بالكهرباء والغاز، بس أهو لسه فيه ناس غلابة زى البوابين ولا اللى بيشتغلوا فى البنا بيشتروه، وفيه ستات بتشترية عشان تمسح بيه البلاط ولاّ تنضف بيه أى حاجة فى البيت. - تفتكرى هابيع بكام يعنى، يوم ما اقول بعت ارجع بيتى بعشرة جنيه مش أكتر، ودول هيعملوا إيه مع الهم التقيل اللى ورايا. - لا ما عنديش ولاد، بس عندى هم مراتى التعبانة، وهم ابن اخويا حسين، هو مسكين يتيم الأب والأم، وأنا اللى متولى تربيته من زمان، بس ربنا ابتلانا بلاء كبيراً قوى وجاله سرطان فى دماغه، وده ربنا ما يوريكى مرض وحش ومصاريفه كتير، وما فيش منه رجا مع الناس الغلبانة اللى زينا. - مين يعنى اللى هيصرف على مرضه، أنا اللى شايل كل حاجه على كتافى، عشان هو ما بيقدرش يشتغل ولا يتحرك زى الولاد اللى في سنه، ولولا كده كان هو اللى شال الهم عنى وجر العربية عشان يبيع الجاز للزباين. - مرضه بيكلفنى والله أكتر من مية جنيه كل كام يوم، وحاولت أكتر من مرة أجرى ورا المعاش ده اللى بتديه الحكومة للغلابة اللى زيى، ورجليا حفيت والناس دوخونى من غير فايدة، ومبقاش عندى فى الدنيا إلا العربية دى أجرها طول النهار عشان رزقى ورزق مراتى وعشان دوا الغلبان اليتيم. - يابنتى ثورة إيه وبتاع إيه، أنا لافاهم حاجة من الثورة ولا اللى بيحصل دلوقتى، ناس طالعين هنا، وناس طالعين هناك، ودول بيضربوا دول ودول بيشتموا دول، أهو باسمع من الزباين كلمة من هنا وكلمة من هناك، بس الكلام ده كله هيهمنى فى إيه، على رأى المثل «يعنى سخطوك يا قرد هيخلونى ايه»، انا كل اللى هاممنى لقمة العيش اللى بقت مرة قوى. - عنوانى مصر القديمة، شارع الشخمارك، وأنا زى ما قلتلك اسمى عبده يوسف على. ويصرخ بصوت خفيض متألما وهو يمسك بظهره من الآلام، ويضيف: كل اللى نفسى فيه يابنتى حد يساعدنى أشترى حمار، ناس قالتلى انه بألف جنيه وناس قالوا أكتر، نفسى أشترى حمار يرحمنى من جر العربية بدل الحمار، ظهرى وكتافى وجعونى، ما بقيتش قادر امشى واجرها، أنا راجل كبارة، واللى كنت اقدر أعمله امبارح ما بقيتش قادر أعمله دلوقتى. - ونفسى حد يساعدنى فى علاج ابن أخويا، وحد من ولاد الحلال يساعدنى آخد معاش الحكومة، دانا والله بادفع 250 جنيها فى ايجار المطرح اللى قاعد فيه انا والولية والواد. - شوفى طول ما الناس دى بتتخانق مع بعضها عشان متعة فى الدنيا ولا كرسى زايل، مش هيبقى فيه خير فيهم ودول مش ولاد مصر، ولاد مصر لازم يخافوا عليها ويشوفوا مصلحتها فين ويعملوه، ويتفقوا، لازم يتفقوا مع بعض عشان ما يضحكوش علينا بتوع بره، وربنا يصلح الأحوال للناس كلها.