مع إعلان تنحي الرئيس حسني مبارك، بدأت تتردد في الساحة المصرية الفكرة التي كانت السبب في تعطيل تطور الحركة الديمقراطية التي أنتجتها الثورة المصرية، وأدت إلى اندلاع الكثير من الأزمات السياسية التي كان آخرها تلك الأزمة التي وقعت خلال الأيام الأخيرة، وكادت تقضي ليس فقط على تلك الديمقراطية الوليدة ولكن أيضا على الثورة ذاتها.. إنها فكرة التوافق. توجد على الساحة السياسية قوتان أساسيتان: التيار الإسلامي صاحب الشعبية الكبيرة، والتيار العلماني الذي يسيطر على الإعلام ومؤسسات الدولة المصرية. ولأن العلمانيين يعلمون جيدا أنهم لن يستطيعوا الاستمرار في سيطرتهم تلك مع تطبيق قواعد الديمقراطية التي ستأتي بالقوة الأكثر شعبية، لذلك سعوا إلى طرح فكرة التوافق مع التيار الإسلامي من أجل الاحتفاظ بمكاسبهم التي تحققت طوال العقود الماضية، في ظل سعي النظام السابق لتغييب التيار الإسلامي عن ساحة العمل العام. وجاءت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس 2011 والتي أكدت على الشعبية الجارفة لقوى التيار الإسلامي، لتزيد من إصرار القوى العلمانية على طرح فكرة التوافق على خطوات العمل السياسي خلال الفترة الانتقالية بهدف تعويق عملية التحول الديمقراطي. لكن إصرار التيار الإسلامي على الالتزام بنتيجة الاستفتاء التي جعلت إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية قبل وضع الدستور، دفعت القوى العلمانية إلى محاولة تفجير الساحة السياسية بالعنف من أجل تعطيل هذا المسار. وقد ظهر ذلك في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها. لكن رغم ذلك تم إجراء الانتخابات البرلمانية التي فاز فيها الإسلاميون بأغلبية كبيرة، ما دفع العلمانيين إلى العودة مرة أخرى إلى فكرة التوافق من أجل الحصول على مكاسب في البرلمان الجديد تتعدى بكثير نسبة ما حصلوا عليه من مقاعد. وخلال الاستعداد للانتخابات الرئاسية، حاولت القوى العلمانية منع التيار الإسلامي من ترشيح أعضاء منه، بحجة أن التوافق يعني ترك مقعد الرئاسة لمرشح لا ينتمي للإسلاميين. وحينما رفض الإسلاميون ذلك، تم اعتبار ذلك محاولة للهيمنة على مقاليد السلطة، وهو المفهوم الذي تطور فيما بعد تحت مسمى مصطلح "أخونة الدولة" بعد فوز مرشح الإخوان بمنصب الرئيس. ومع الاتجاه إلى تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، ظهرت مرة أخرى فكرة التوافق من أجل منع الإسلاميين من السيطرة على الجمعية، حيث طالب العلمانيون بالحصول على ثلث مقاعدها رغم أن تمثيلهم الشعبي والسياسي بعيد كل البعد عن هذه النسبة. ورغم حصولهم على ما يريدون إلا أنهم سعوا إلى تعطيل أعمالها من خلال الطعن على تشكيلها أمام القضاء الذي أصدر حكمه بحل الجمعية. وتكرر الأمر مرة أخرى في تشكيل الجمعية الثانية، حيث نجح العلمانيون في الحصول على نصف مقاعد الجمعية، تحت ضغط فكرة التوافق. لكن ذلك لم يحل دون العمل على محاولة تعطيل عملها من خلال رفض الكثير من المواد المقترحة للدستور. ورغم سعي الإسلاميين لتوافق حقيقي معهم من خلال الموافقة على إزاحة الكثير من المواد التي يرفضها التيار العلماني، إلا أن ذلك لم يدفعهم إلى وقف محاولاتهم المتكررة لتعطيل إخراج الدستور إلى النور. فقد عمد التيار العلماني إلى الانسحاب من الجمعية قبل أيام قلية من عملية الانتهاء من الدستور، وذلك لتفجير أزمة جديدة تقضي على أية فرصة ممكنة من أجل وضع هذا الدستور وإنهاء المرحلة الانتقالية. وقد نجحوا بالفعل في ذلك متحججين بأن مواد الدستور غير توافقية، رغم أن أكثر من 95% من هذه المواد تم التوافق عليها بمحاضر موقعة منهم قبل انسحابهم مباشرة. ومع إعلان الرئيس مرسي طرح مشروع الدستور للاستفتاء، رفض العلمانيون هذا الاستفتاء ودعوا إلى مقاطعته، قبل أن يتراجعوا ويدعوا الشعب إلى التصويت برفضه بحجة أنه لا يعبر عن الشعب المصري بل عن فصيل واحد. إن فكرة التوافق كان الهدف منها تعطيل المسيرة الديمقراطية، لأنها ببساطة تتعارض مع أبسط قواعد تلك الديمقراطية التي تقول إن أي مجتمع ينقسم إلى أغلبية وأقلية، وأن صندوق الانتخابات هو وحده من يحدد تلك الأوزان ليأتي بالأغلبية لتحكم منفردة ويضع الأقلية في موضع المعارضة لحين إتمام دورة انتخابية، تبدأ بعدها دورة أخرى قد تختلف فيها الأوزان وتتحول الأقلية إلى أغلبية حاكمة في حين تصبح الأغلبية أقلية معارضة. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية