الديمقراطية تعني توافق القوي السياسية علي مجموعة من القواعد والآليات لكي تحتكم من خلالها إلي الشعب, كلما احتدم الخلاف بينها.. فالشعب بصفته صاحب السيادة والسلطة, هو الحكم النهائي. ويعرف الإنسان بأنه مدني ديمقراطي كلما احترم إرادة الشعب وتمسك بقواعد الديمقراطية وآلياتها, بغض النظر عن مدي توافق نتائجها مع رغباته. غير أنه في مصر اليوم جماعات تزعم أنها مدنية ديمقراطية, علي الرغم من أن سلوكها يؤكد عكس ذلك: أولا: في استفتاء19 مارس2011, قرر الشعب بأغلبية77.2% أن البرلمان يجب أن يأتي أولا, حتي يقوم نوابه بتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. هاج العلمانيون وماجوا, ورفضوا النتيجة بزعم أن الشعب انضحك عليه بحكاية الجنة والنار.. أو كما قال أحدهم: نجح الإخوان في تزييف وعي الجماهير العريضة, التي ليس لديها وعي اجتماعي حقيقي. بتعبير آخر, فإن الشعب في نظر العلمانيين كما كان في نظر مبارك قاصر وفاقد الوعي لايدري أين مصلحته. وطوال الشهور التالية للاستفتاء, لم يتوقفوا عن محاولة الانقلاب علي النتيجة. ثانيا: في الانتخابات البرلمانية, رفضوا النتيجة أيضا, وشنت الصحف والفضائيات التابعة لهم حربا شعواء علي البرلمان ذي الأغلبية الإسلامية منذ اليوم الأول, وتكتموا علي إنجازاته, وتصيدوا أخطاء بعض أعضائه, وضغطوا من أجل حله وإلغائه, دون أدني اعتبار لحقوق30 مليون مواطن شاركوا في انتخابه, أو للمليارات التي أنفقت عليه. وتحقق لهم ما أرادوا. ثالثا: الحرب القائمة منذ شهور ضد الجمعية التأسيسية, والتي تشكلت بشرعية أول استفتاء حر في تاريخ مصر, والتي تنص لائحتها الداخلية علي آلية محددة للتعامل مع الخلافات بين أعضائها, في حال تعذر الوصول إلي توافق علي نص معين. هذه اللائحة التي وافق عليها الجميع, لا يوجد فيها أي إشارة إلي التهديد بالانسحاب الجماعي لإسقاط الجمعية, أو إلي إثارة الصخب والضوضاء في المنابر الإعلامية لترويع وابتزاز باقي الأعضاء لقهرهم علي تمرير دستور علي هوي الأقلية السياسية. جاء في( الأهرام) أن المشاركين في مؤتمر الجبهة المصرية الدستورية رفضوا التشكيل الحالي للجمعية لأنه كفانا استهانة بالشعب المصري. ويذكر كاتب آخر أن هناك تسعة مقاعد خالية, يمكن أن تملأ بشخصيات من خارج التيار الإسلامي. ويطالب ثالث ب الضغط من أجل إعادة تشكيل الجمعية بما يتناسب مع الهوية المصرية. ويقول رابع إن الجمعية غير قادرة علي إنجاز دستور يحظي بتأييد شعبي. نفهم مما سبق ما يلي.. أولا: أنه لا يوجد احترام لهذه الجمعية, بدليل أنه يحق لكل من هب ودب أن يرفضها وينقلب عليها. ثانيا: أنه لا قيمة لإرادة الشعب التي جاءت بهذه الجمعية عن طريق استفتاء وبرلمان. ثالثا: أنه يمكن التراجع عن الانقلاب فقط إذا تم استبدال أعضاء إسلاميين بشخصيات علمانية. رابعا: إما أن يتحقق التوافق بشروط العلمانيين وإما الانسحاب الجماعي وإسقاط الجمعية.خامسا: الكلام عن إعادة تشكيل الجمعية بما يتناسب مع الهوية المصرية, وعن الاستهانة بالشعب المصري, وعن أن الدستور لن يحظي بتأييد شعبي.. هذا الكلام لا يقصدون به شعب مصر, الذي يعتبرونه قاصرا لايستطيع التفرقة بين ما ينفعه وما يضره, وإنما يقصدون به شعب التيار العلماني الذي يرفض الجمعية بسبب الأقلية الإسلامية التي تشكل41% من أعضائها. لو أنهم يقصدون شعب مصر, لتركوا القرار للشعب في الاستفتاء علي المنتج النهائي للجمعية, ولوضعوا ثقتهم في قدرته علي رفض ما لا يتناسب مع هويته وما لا يحظي بتأييده وما يمثل استهانة به. ولكنهم للأسف مقطوعو الصلة بالشعب, لا يقيمون لإرادته وزنا. مشكلة العلمانيين ذات شقين: أولهما أن كراهيتهم للإخوان, التي وصلت إلي حد الهوس, أعمت بصيرتهم. إن الشعب أوعي مما يظنون, وهو لن يمنحهم أصواته إلا عندما يتأكد أنهم يمارسون السياسة من أجل خدمته والنهوض بالبلد, وليس من أجل الكيد للإخوان وإقصائهم. وثانيهما أن ثقتهم منعدمة في الشعب. ليست المشكلة أبدا في انعدام الثقة بين الإسلامي والعلماني, فهذا وضع طبيعي في الديمقراطية. وإنما تكمن المصيبة في استعلاء العلمانيين علي الشعب وانعدام ثقتهم فيه, إلي درجة الانقلاب علي أول وأهم قواعد الديمقراطية, وهي أن الشعب هو الحكم الوحيد في المنافسة السياسية, وأن قراره واجب الاحترام أيا كان, لقد عبر الكثير من الكتاب الإسلاميين عن رغبة صادقة في أن يظهر للعلمانيين علي الساحة حزب سياسي ينافس الإسلاميين بقوة, لأن الممارسة السياسية لا ترتقي إلي المستوي المطلوب من النضج إلا في ظل ضغوط ومنافسة قوية. وعليه فإني أدعو العلمانيين أن يتوقفوا عن الشغب علي الجمعية التأسيسية, ويتركوا الحكم علي المنتج النهائي للشعب. وإذا خرج الدستور بما لا يرضيهم, فإنها ليست نهاية العالم, حيث يمكنهم تعديل نصوصه من خلال موافقة ثلثي البرلمان. إن الدستور الكامل الذي نبتغيه لن نصل إليه من المحاولة الأولي, ومن السذاجة أن يعتقد أحد بغير ذلك. سيتطلب الأمر تعديلات كثيرة مع مرور الزمن, قبل أن نصل إلي الصيغة التي يتحقق حولها توافق حقيقي. أما أن يسعي طرف إلي تحقيق توافق بالقوة والغصب ورفع سلاح الانسحاب الجماعي, فهذا تهريج ما بعده تهريج. تعالوا نتصور ماكان سيكون عليه حال مصر الآن لو أن العلمانيين قبلوا نتيجة الإستفتاء وأصروا مع الإسلاميين علي رحيل العسكر عن الحكم بعد ستة أشهر. كم من الأرواح البريئة أزهقت نتيجة الانقلاب علي الاستفتاء والضغط علي العسكر للبقاء في الحكم؟ كم من الناخبين أهدرت حقوقهم وكم من المليارات ضاعت نتيجة الانقلاب علي البرلمان؟ أما الكوارث التي ستنجم عن الانقلاب علي الجمعية التأسيسية, فإنني أترك تصور أبعادها لخيال القارئ. المزيد من مقالات صلاح عز