لقد كشفت مسألة المواد الفوق دستورية المطروحة نظرة التيارات العلمانية لقضية الديمقراطية وأوضحت تناقضات شديدة بين النظرية والتطبيق. فمنذ أن بدأت هذه الحملة تحت ستار الدستور أولا إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي وهذا التيار العلماني – أو بمعنى أدق التيارات – يستخدم كل ما أوتي من قوة متمثلة في قنوات فضائية وصحف مستقلة ونخبة متألقة ووجيهة للتأثير على الرأي العام من ناحية وللضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة من ناحية أخرى. قد تختلف طرق العرض ووسائل الإقناع والحجج المعروضة ولكنها كلها ترتكز على فكرة بسيطة ألا وهي أن هذه المواد بمثابة صمام أمان وخريطة طريق للجنة وضع الدستور حتى لا يستأثر فصيل معين بالمهمة فيُخرج لنا دستور معيب لا يعبر إلا عن نفسه وقناعاته ضاربا عرض الحائط بأبسط قيم العدالة والحرية والمساواة والتي من أجلها قامت الثورة. لن أتطرق هنا لما تحمله هذه الرؤيا من سوء ظن واستعلاء على الطرف الآخر وهي نفس التهم التي ما انفكوا ينسبونها إلى التيار الإسلامي بكل أطيافه. ولكن ما يعنينا هنا هو تحليل هذه النظرة وتوضيح ما بها من عوار وتناقض. فنقول, كما أسلفنا, هذه الأطروحات ترتكز على قضيتين أساسيتين: 1. التيار الإسلامي سيحظى بأغلبية مريحة في الإنتخابات. 2. التيار الإسلامي إذا تمكن من مهمة تشكيل اللجنة, سيُنتج دستور معيب لا يحترم مدنية الدولة وحقوق الأقليات التي أعلنتها المواثيق الدولية. أما فيما يخص القضية الأولى, فلن نتعرض لها هنا إلا بالقول أن هذه فَرَضية منتشرة بدون أي دليل موضوعي على صحتها. نعم هناك قرائن كثيرة تجعل حتى كاتب هذه السطور يشك أنها قد تكون صحيحة. على أية حال هذه القضية إن دلت على شئ, فهي تدل على حاجتنا, ونحن ندخل عالم الديمقراطية, إلى مراكز قياس واستطلاع رأي تحظى بالموضوعية وتتسم بالحرفية وتشتهر بالنزاهة والشفافية. ونأتي للقضية الثانية محور هذا المقال. هناك مسألة أساسية يغفل أو يتغافل عنها منظرو التيار العلماني ألا وهي أن هذا الدستور بعد صياغته سيُعرض لإستفتاء شعبي عام لقبوله أو رفضه. ومن ثَمّ, فإن الشعب حقيقة هو الذي وضع الدستور – عن طريف انتخاب المجلس الذي اختار اللجنة – ثم بعد ذلك قبل أو رفض الدستور المُصاغ عن طريق الإستفتاء. فما مبرر الخوف إذن؟ وأين إستئثار التيار الإسلامي؟ غالبا ما يكون رد التيار العلماني أن هذه غالبية كاذبة أو هشة. بمعنى أنها أغلبية يغلب عليها طابع الأمية وتتأثر بسهولة بالخطاب الديني الذي يجيد التيار الإسلامي إستخدامه بمكر ودهاء ومن ثَمّ, فهي أغلبية ساذجة يسهُل التأثير عليها وتوجيهها كالقطيع. والحقيقة اننا لو أمعنا النظر في مثل هذه الردود لأصابنا الهلع أو الغضب والقلق, بناءا على التيار الذي ننتمي إليه, اللهم إلا التيار العلماني. فنحن هنا أمام فصيل معتدّ برأيه, يراه حقا صرفا وكأنه يملك الحقيقة المطلقة ويريد فرضه على الشعب فرضا. وهو تيار لا يؤمن بأبسط قواعد الديمقراطية وآلياتها المختلفة من إنتخاب وإستفتاء. بالإضافة إلى ذلك, فهذا التيار, لم يفتأ يحذر جموع الشعب المصري البرئ من ظلامية التيار الإسلامي وديكتاتوريته وما سيترتب على إنتخابه من إهدار للحقوق والحريات! ونأتي لمسألة أخرى, ما هي طبيعة هذا التيار العلماني الذي توافق على وضع هذه المبادئ الفوق دستورية؟ لنوضح في البداية أنه ليس تيارا واحد بل تياراتٍ شتى ما يفرق الكثير منها أكثر مما يجمعها كالتيار الشيوعي والليبرالي على سبيل المثال. ولكن برغم هذه الإختلافات, فقد تجمعت هذه التيارات حولة فكرة حماية الدولة المدنية والحريات وحقوق الأقليات. وكما ذكرنا في القضية الأولى وبإعتراف هذه التيارات أنفسها, فهم أقلية في المجتمع المصري – الحقيقة المؤلمة التي تكشفت لهم بعد الإستفتاء – ولذلك فهم يسعون للوصول إلى هدفهم والذي لا يختلف مع ظاهره أحد عن طريق آخر غير الآليات الديمقراطية. والغريب أو الملفت للنظر أنهم لا يخشون من إستئثار التيار الإسلامي بوضع باقي مواد الدستور بما فيها من تعقيد, ولكن جَلّ همهم هو مدنية الدولة, أما صلاحيات الرئيس والتوازنات بين السلطات فهذ أمور فرعية من الممكن إئتمان التيار الإسلامي عليها! إذن, فنحن أمام أقلية فيما يبدو لا تخشى أو لا يهمها في الدستور الجديد إلا تأمين حقوقها وفرض هوية بعينها على الدولة وذلك عن طريق فرض رأيها على الأغلبية! إذن وختاما, فنحن أمام فصائل سياسية تدّعي الإيمان بالديمقراطية وبوثائق حقوق الإنسان العالمية والتي من أسسها الحرية والديمقراطية. ومع ذلك, أو بالرغم من ذلك, نراها تسعى للإلتفاف على هذه الأغلبية لزعمها أنها أغلبية غير ناضجة وينقصها الوعي ومن ثَمّ, فهي في حاجة للوصاية عليها عن طريق إلزامها بمبادئها وتوجهاتها. وبتأمل هذه النتيجة التي وصلنا إليها, يتضح لنا أننا أمام إمتداد للفكر المباركي أو ما يُطلق عليه فلول النظام. بل هم أخطر أنواع الفلول, لأن الأنواع الأخرى من بلطجية وأمن دولة يعرفهم الجميع ولا خوف على أحد من التأثر بهم, أما هؤلاء فهم وجهاء القوم ونخبتهم وهم ملئ السمع والبصر ولهم تأثير لا شك فيه وخاصة على الكثير من القوة الشبابية الثورية.