يبدو أن عملية "عمود السحاب" الإسرائيلية ضد قطاع غزة قد تتحول إلى "خازوق" سياسي وعسكري بالنسبة للحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، فهذا العدوان العسكري الصهيوني ضد المقاومة الفلسطينية تحول من مكسب تكتيكي مفترض بالنسبة لحكومة تل أبيب إلى خسارة إستراتيجية كبيرة، فقد تمكنت حركتا حماس والجهاد . وإلى جانبهما باقي فصائل المقاومة الفلسطينية من تغيير قواعد اللعبة الدامية وإحداث عدد من التحولات الكبيرة التي من شأنها أن تعمل على صياغة المشهد لصالح المقاومة الفلسطينية، وعلى رأس هذه التحولات ضرب عاصمة الكيان الإسرائيلي بصواريخ فجر 5 لأول مرة وضرب مستوطنة غوش عتصيون القريبة من القدس وإسقاط طائرة استطلاع إسرائيلية وإطلاق صاروخ أرض جو على مقاتلة إسرائيلية من طراز إف 16 وإطلاق صاروخ كورنيت على بارجة إسرائيلية في البحر المتوسط، واختراق هواتف 5000 ضابط صهيوني يشاركون في العدوان على غزة وإرسال رسائل تحذيرية لهم، وهي نجاحات فلسطينية تعني أن "عصر العربدة الإسرائيلية قد انتهى إلى غير رجعة"، وتعني أن إسرائيل بدأت تدخل في "الزمن الفلسطيني" بعد أن بدأت تفقد زمنها الإسرائيلي الصهيوني اليهودي، وهو تحول من شأنه أن يقلب اتجاه عقارب الساعة تماما. نجاحات المقاومة الفلسطينية لم تقف عند هذا الحد بل تعدتها إلى صناعة الصواريخ، التي طال مداها لتضع 5 ملايين إسرائيلي في دائرة الهدف والإصابة المحتملة، بل تعدتها إلى محاولة صناعة طائرات بدون طيار، وهي المحاولة التي يقول جيش الاحتلال إنه أجهضها بعد أن قامت طائراته بقصف المصنع الذي يتم فيه صناعة هذه الطائرات. هذه التحولات العسكرية واكبها تحولات سياسية إستراتيجية، تمثلت بزيارة رئيس الوزراء المصري هشام قنديل إلى غزة أثناء العدوان، وهي زيارة تحمل أبعادا مهمة، لأنها تعلن انتهاء حقبة "مبارك الموالي لإسرائيل" والحليف الذي يؤمن الغطاء لإسرائيل، عربيا وإقليميا ودوليا، وانتقال مصر الثورة إلى مرحلة جديدة التي يصرح فيها رئيسها الدكتور محمد مرسي "إن مصر لن تسمح باستمرار العدوان على غزة" ويصرح رئيس وزرائه من قلب غزة أنه "'لا يمكن السكوت على هذه المأساة، وعلى العالم أجمع أن يتدخل بشكل عاجل لوقف العدوان'، وهي نقلة نوعية تشير إلى الخسائر الإستراتيجية الكبيرة التي منيت بها إسرائيل، بسبب الثورات العربية، التي أسقطت أنظمة كان تحمي إسرائيل، وعلى رأسها بالطبع "مصر مبارك" و "تونس زين العابدين" التي خلعته الثورة وانقلب موقفها إلى دعم المقاومة الفلسطينية، وهو موقف عبر عنه وزير خارجيتها الدكتور رفيق عبد السلام الذي زار غزة برفقة 12 وزيرا، للتعبير عن تضامنهم مع سكان قطاع غزة. هذه المؤشرات كلها تدل على أن إسرائيل خرجت من الزمن العربي الذي كانت تهيمن عليه بقوة أمريكا وأوروبا، وأنها ستخرج لاحقا من الأرض العربية في فلسطين، فمن يخرج من الزمن والتاريخ لابد أن يخرج من الجغرافيا أيضا، وربما كان هذا بالضبط ما تحدث عنه الداهية اليهودي هنري كسينجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، قبل فترة قصيرة من أن إسرائيل ستختفي خلال 10 سنوات، ويبدو أن توقعاته ستتحقق لأن المؤشر الإسرائيلي يتجه نحو الأسفل بشكل دائم منذ عقد من الزمان. إسرائيل تترنح استراتيجيا وأي مغامرة عسكرية جديدة ستكبدها خسائر فادحة على مستويين، المستوى الأول هو قدرة الفلسطينيين حاليا على قصف العمق الإسرائيلي، وقدرتهم على تنفيذ عمليات استشهادية في كل زاوية من المدن الإسرائيلية ومستوطناتها، والمستوى الثاني، وهو إمكانية توسع دائرة الحرب لتشمل دولا عربية أخرى مثل مصر وربما حزب الله في لبنان، مما يعني أن الكيان الإسرائيلي سيجد نفسه في مواجهة حرب شاملة داخلية وخارجية للمرة الأولى منذ تأسيسه، وهي حرب جديدة في المفهوم والممارسة، وسيترتب عليها نتائج جديدة ستصب في خانة الفلسطينيين في الدرجة الأولى. وهذا ما دفع وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ إلى تحذير إسرائيل من عواقب شن غزو بري على قطاع غزة وقال: 'يجب على إسرائيل أن تضع في الاعتبار أنها عندما قامت باجتياحات لغزة في نزاعات سابقة، فقدت الدعم الدولي وقدرا كبيرا من التعاطف في أنحاء العالم'، ومن هنا يمكن فهم تحذيرات "الثعلب البريطاني" الذي يتخوف على مصير الكيان الإسرائيلي ويحذره من نفسه وألا يتمادى حبه قبل أن يخسر مرة أخرى. كثير هي التحولات الإستراتيجية الكبيرة في فلسطين والعالم العربي، وهي تحولات تهدم البنية التحتية للخوف وتمنح المقاومة الفلسطينية المزيد من الثقة بالنفس، وتنهي حقبة "أوسلو"، وتعلن الموت النهائي لعملية السلام ونهاية "عصر المفاوضات" وكسر الجبروت الإسرائيلي وبداية أفول "الإسرائيلية - الأمريكية" في المنطقة الأمر الذي يمكن أن يترجم على أنه "بداية العد العكسي لإسرائيل"، وهي البداية التي دشنها وصول أول صاروخ فلسطيني إلى تل أبيب وأول صاروخ فلسطيني إلى القدس. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية