حالة الانقسام الحادة بين المصريين حيال مستقبلهم وهويتهم تنبئ بمخاطر أقل ما توصف بها أنها من أخطر ما هدد المصريين في تاريخهم الحديث منذ أكثر من قرنين من الزمان.. الناس منقسمون بين أغلبية تعاني العوز والفقر وضيق الحال وانسداد كل طاقات الأمل أمامهم وبين جماعات وتيارات تواجه بعضها بعنف وقسوة وحدة.. فريق يتمسك بهوية مصر الحديثة التي تشكلت بفعل تراكمات وطنية شارك بها ساسة وأدباء ومفكرون وفنانون ورجال دين ومجتمع استوعب وقبل تفاعل وعشق هذه الهوية – أما الفريق الآخر فإنه يقاتل من أجل العودة بمصر الى صحاري التاريخ القديم وتجريدها من هويتها المعاصرة وإلباسها عباءة الشريعة التي يتخيلها.. إذن نحن أمام مأساة حقيقية ومشهد تاريخي عجيب يقف فيه الماضي بمواجهة المستقبل مستقويا ومهددا ومتوعدا بأن من لا يسمع ويطيع فقد اختار مصيره الهالك.. وبين الفريقين نبحث عن الدولة نجدها مثل قشة تتقاذفها الأمواج – فالرئيس حائر على ما يبدو بين واجبات منصب يحتم عليه أن يكون رئيسا لكل المصريين وضغوط جماعة ينتمي إليها عليه السمع والطاعة في المنشط والمكره، وانتماء الرئيس للجماعة أصيل وقديم ومهما حاول الاستقلال عنها. هذا على افتراض أنه يرغب في ذلك – فإنه لن يستطيع لأن الجماعة كما أتصور اليوم أقوى من الرئيس وشبكة مصالحها وعلاقاتها المجتمعية ونفوذها الاقتصادي يجعل الرئيس يفكر ألف مرة قبل أن يدير ظهره لجماعته التي أوصلته للسلطة وثبتته على قمتها خاصة أنها فعلت ذلك ليس لكي تقول إن مهمتى قد انتهت، وليبدأ ابن الجماعة مهمته ولكن في الحقيقة لتبدأ المهمة ويبدأ الدور والعصر الجديد لجماعة الإخوان المسلمين. وحتى اللحظة فإن هذا الالتباس والزواج غير الشرعي بين الرئاسة والجماعة يشجع على تنامي حدة الانقسام الداخلي ويشجع – وهو الأخطر – تيارات ظلامية على الاستقواء بأوضاع تراها في صالحها وصالح فرصتها التاريخية في الانقضاض والقنص.. والمشهد الثاني الذي نتأمله على مسرح الانقسام الحاد بين المصريين مشهد صياغة دستور جديد لبلد فجر ابناؤه من الشباب تحديدا أعظم ثورات التاريخ الحديث في العالم كله، وكان المتوقع أن يتم صياغة واحد من أروع الدساتير في تاريخ مصر – وإذا بالثورة تسرقها جماعات استبدلت شعارات الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية بشعارات الشريعة الاسلامية، وبدلا من أن يفخر المصريون بدستور يجسد أحلام الثورة ومفجريها فإذ بجماعات الظلام تطفئ بريق هذه الثورة بعيون حتى شهدائها الأبرار.. بدلا من القفز بحرية نحو المستقبل يسبقنا حلم الثورة فإذا بقوى ظلامية تصر على دفع المجتمع بالقوة نحو مجاهل التاريخ ودروب فشله.. إنها أكبر جريمة قتل جماعي ضد كل قيم الإنسانية – تلك التي ترتكبها جماعات الظلام باسم الدين وباسم السماء وباسم الله الذي خلق الناس أحرارا وهم يستعبدون ويستذلون خلق الله مستغلين فقر الناس حينا وتواضع وعيهم حينا، وحين يغرق الناس في محيط من الإحباط والفشل فالمخدر الطبيعي لهم أن تحقنهم بتدين مصطنع وأن تسجل لهم عقودا وهمية بامتلاك مساكن في الجنة تعوضهم عن أعمارهم التي عاشوها في عراء الحياة وفوق رصيفها الذي لا يرحم الضعفاء. أما المشهد الثالث الذي يؤلم بحق فهو مشهد ملايين الصامتين الذين تقاعس 25 مليونا منهم ولم يذهبوا للادلاء بأصواتهم لاختيار رئيسهم القادم.. هذه الملايين في الحقيقة تتسبب بتقاعسها عن المشاركة الفعالة فيما يجرى على أرض مصر في ضياع البلد وعنف الانقسام بها.. هذه الملايين في معظمها لا تنتمي لجماعات تتاجر بالدين من أجل السلطة ومغانم الحكم وإذا خرجت لتقول لا للدستور المشوه الذي يقاتل المستشار الغرياني من أجل الانتهاء منه خدمة لجماعات بعينها وليس لمصر لتغيرت أمور كثيرة – هذه الملايين لو خرجت لتقول لا للمتاجرة بمستقبل مصر وهويتها وتاريخها لتغيرت أمور كثيره.. هذا الملايين لو خرجت لتقول كفى لعبا بنا وبحاضرنا ولتبقى سماء مصر فضاء عظيما للحرية ولتحليق الاحرار والثوار وسحقا لخفافيش الظلام والمنبعثين من جحور الجهل والتخلف لتغيرت أمور كثيرة. هذه الملايين لو خرجت تقول للرئيس أيها الرئيس نحن نحترم صندوق الانتخاب الذي أتي بك ولكن من العيب والعار أن تظل جماعتك خارجة على القانون ودولة داخل الدولة – فإما أن تقومها وتحاسبها أو أن تعود إليها لأن مصر يا سيادة الرئيس فوقنا جميعا.. لو فعلت ذلك لتغيرت أمور كثيرة .. مصر فوق الجماعة وفوق الرئيس وفوق كل الأحزاب والتيارات.. مصر فوق كل العمائم والعباءات.. مصر فوق كل الشعارات الكاذبة والرايات السوداء التي تحملها مناقير طيور الظلام.. مصر حضارة كبيرة وتاريخ ممتد وعريق وبعون الله ووعي ملايين الصامتين لن تغيب شمسها وإن حاولت خنقها غيوم الجهالة والعصبية وتجار الدين والدنيا.. الطوفان القادم وليته طوفان من نور وليس من نار.