"في حالة استشهادي أو فقداني يرجي تسليم متعلقاتي الي محمد رجب "...ذلك هو نص الوصية كما تلصصنا عليها .والوصية لشاب مصري ضمن لجنة الاغاثة الطبية التي سافرت الي بنغازي لتضميد جراح الثوار وتقديم المدد للمصابين والاسعافات التي تعاونهم علي الحياة إلا ان المسعف المصري محمد الهلالي 28 سنة قرر ان يستبدل مهمته بارض المختار بمهمة أخري هي القتال علي الجبهة ضمن صفوف الليبين ,عقب المشاهد المأساوية التي نقلتها حدقة عينه الي قلبه. فكان القرار الذي اتخذه المسعف المصري بحمل الكلاشينكوف والصمود امام كتائب مرتزقة القذافي . كانت وصية الهلالي هي بداية الخيط الذي شدني لأن أنوي عمل هذا التحقيق حول المصريين علي جبهة القتال في البريقة ورأس لانوف. وليس الهلالي وحده هو من كتب وصيته واتجه الي خط النار لمعاونة الأشقاء الليبيين ,بل تكشف الأمر عن ثلاثة من خيرة شباب المحروسة توجهوا الي الجبهة يدا بيد مع الثوار حيث يكون الدم المصري والدم الليبي شريانا واحدا ليمد ليبيا بالحرية والكرامة داخل معركة تحديد المصير . الشاب الاول هو المسعف محمد الهلالي خبير الاسعافات ونقل الحالات الحرجة ,بينما يكون الاندهاش امام الحالة الثانية حالة الشاب ابو العلا احد رجال الاعمال بالجمهورية الليبية ,ابو العلا الشاب صاحب الثلاثين عاما ذو البشرة البيضاء والنظارة الشمسية والسيارة ماركة »بي ام دبليو« ,ويبقي السؤال البديهي ما الذي دفع رجل الاعمال الصغير ان يشارك علي الجبهة دون ان يعي كيف يستخدم المعدة الحربية التي سيقاتل بها ,ابو العلا الشاب الذي قضي في ليبيا سبع سنوات مع اسرته التي نزحت الي ليبيا في الثمانينيات والتحق هو بها في منتصف بداية الالفية عقب انهائه لتعليمه الجامعي بمصر ليجد ابويه قد وفرا له شركة صغيرة في مجال الحاسب تناسب مؤهله الدراسي ,ويسطر الفدائي في شركته نجاحات تدفع الشركة الصغيرة لأن تكون واحدة من كبري شركات الحاسوب ببنغازي. هو كمان سطر وصيته واعطاها الي احد الاطباء المصريين كحامل للامانة وجب عليه تنفيذها، ثم الي الشاب الثالث ابو جانا المصري كما يناديه المصريون والليبيون علي الجبهة ,واسمه الحقيقي هو احمد الذي وفد الي ليبيا منذ ثلاثة اعوام للعمل وعقب التحاقه بخيمة المصريين بميدان الشهداء قرر ان يسلم نفسه للثوار لينضم اليهم . الشجعان الثلاثة قرروا في يوم واحد وساعة واحدة ولحظة اتفقوا عليها ان يذهبوا الي الجبهة لمقاتلة كتائب الرجل الذي انتهك حرمات الاطفال ,دون ان يستشيروا احدا او يخبروا احدا واكتفوا بظرف متوسط الحجم تركوه الي عامل الرسيبشن في الفندق الليبي الذي تقيم فيه البعثة الطبية ببنغازي وعلي ظهره جملة واحدة "يسلم للدكتور المصري مالك العسال فقط ". ونلتقي بمالك ليحكي كيف تعامل مع المظروف الذي بدا كالامانة في العنق فيقول: "منذ اسبوع كنا نجلس في ساحة استقبال الفندق جميعا انا وكل اعضاء البعثة المصرية ,وللاسف كان مشهد الدمار الانساني لايتخيله احد حين قامت قوات القذافي بقصف مدينة اجدابيا لمدة ثلاث ليالي كنا نقصد سيارات الاسعاف ونتوجه الي طريق اجدابيا لرفع الحالة الطبية هناك ما بين حالات بتر وحالات جراحة وحالات حرجة ,كنا في الطريق الي اجدابيا نواصل علاج الحالات ,التي كانت مممددة بطول الطريق ,واغلبهن كانت الامهات التي اوشكت ان تضع حملها ,وكنا نواجه مشكلة وهي ان المواطن الليبي لايسمح ابدا لاي طبيب لفحص زوجته بسبب طباع المجتمع البدوي ,فكانت "فضيلة " ممرضة مصرية 35 عاما ,هي من كانت تقوم بمعالجة ومتابعة الحالات الحرجة ,ويكمل الطبيب المصري مالك العسال ,وفي اليوم الاخير لاحظت علي المسعف محمد الهلالي تغيرا في ملامح وجهه وشروده الذي استغرق فترة طويلة ,وكان هذا بسبب حالة رضيع كان مصابا بشظية في بطنه وكان الرضيع يصرخ من الالم بينما اقوم انا برش البنج الموضعي والهلالي يحاول مساعدتي في خياطة الجرح ,لكن المشهد الاصعب هو ان الرضيع توقف عن البكاء واخذ يداعب هلالي بيده علي وجه وبمجرد ان شرعت في اعداد الحالة الصغيرة لخياطة الجرح كانت روح الرضيع قد خرجت لبارئها ,لاحظنا جميعا انفعال محمد الهلالي الذي بات كانه والدا لهذا الرضيع حتي ان اسرة الرضيع الليبي اندهشت من الحزن والغضب الذي سيطر علي الهلالي ,الذي تحول الي طفل يبكي بحرقة وهو ممسك بيدي الرضيع ويدفس وجهه في دمه .ويتوعد بالثأر من قتلته . في هذ اليوم كان الهلالي مقلا في كلامه مع اعضاء البعثة وكان يميل الي الانفراد بنفسه ,وفوجئت انه في اليم الثاني ترك لي وصيته ضمن وصيتين لاحمد ابو جانا والمهندس ابو العلا داخل مظروف عند موظف استقبال الفندق . ليست المرة الأولي والحق ان هذه ليست المرة الاولي لالتحاق الهلالي واحمد ابو جانا الي جبهة القتال لكنها مهمة مخالفة هذه المرة ,حيث شارك الفدائي المصري محمد الهلالي البعثة الطبية داخل جبهة القتال بمدينة راس لانوف ,الا ان مهمته كانت لا تتعدي مهمة مسعف فدائي يروي عنها الدكتور اسامة فتوح استشاري التخدير بجامعة الاسكندرية قائلا :"محمد الهلالي شاب نزع الله الخوف عن قلبه ,ان هذا المشهد الذي سأرويه لك مازال محفورا بداخلي , مشهد اشتداد القتال بمنطقة رأس لانوف وتم استهداف كل سيارات الاسعاف لضمان موت الجرحي في صفوف الثوار,كانت الساعة تقترب من الثالثة عصرا ولكن من كثرة ادخنة القذائف كنا نظن ان الشمس قد غربت ,وللاسف سمعنا اصوات استغاثات تأتينا من وسط القصف ومن داخل الادخنة المتصاعدة .الامر الذي عجز عنه سائق سيارة الاسعاف ان يدخل الي وسط القتال لانقاذ من يستغيثون بنا كانت الاستغاثات عبارة عن جملة واحدة "الحقونا يا مصريا" نبيكم" اسعفونا لوجه الله لأجل عيالنا ". وفوجئنا جميعا بمحمد الهلالي ينهر السائق الليبي الذي كان يتولي مهمة قيادة سيارة الاسعاف .ويقوم بابعاده عن عجلة القيادة الامر الذي افزع السائق الليبي فنزل من السيارة وتولي الهلالي القيادة منطلقا وسط القصف الصاروخي ,ويكمل الدكتور اسامة :"كان يقود السيارة فيختفي عن الانظار تم يعود بعد دقائق ويده مخضبة بدماء الاخوة الليبيين الذين نقلهم الي داخل السيارة دون ان يغلق بابها ويواصل القيادة ,يدخل الي القصف ليأتي بالجرحي ويرميهم لنا علي الارض وينطلق للبحث عن جريح جديد , ليسوا ثلاثة ولم تكن حالة المسعف المصري محمد الهلالي هي النموذج الأوحد للفداء المصري ، والاستبسال علي الجبهة ,الحق اقول انني التقيت بالهلالي بمدينة بنغازي وشرفت ان ابيت معه ليلتين داخل غرفة الفندق التي اقام بها ,وعلمت منه انه حاصل علي بكالوريوس هندسة اتصالات وانه كان يعمل بشركة اتصالات هوائية كبري بمصر وان راتبه كان يتعدي الثلاثة آلاف وانه هنا لاجل مناصرة القضية ,لم يكن الهلالي فردا ضمن جماعة الاخوان ولا القاعدة ,كان شابا حليق الذقن يميل الي الفكاهة ,لكن ما يعلق برأسي هو طول تأمله .حتي لتحسبه وانت تراه للمرة الاولي انه فرد ضمن البعثة الدبلوماسية الرسمية بسبب اناقته وهو مرتدي البدلة الرسمية والعطر الذي يفوح من الفدائي المصري . ولم اتوقع ان يكون المهندس المصري ابو العلا واحدا من ضمن من انضموا إلي الثورة الليبيية وقرروا ان يناصروها بدمائهم ,هكذا يبدو للجميع بمشهده الارستقراطي وسيارته الفارهة والنظارة الشمسية وتليفون الثريا الذي يملكه ويساعد الجميع لاجراء اتصالاتهم بذويهم للاطمئنان . التقيت بالشجعان الثلاثة هناك "الهلالي وابو العلا واحمد ابو جانا " ,والحق ان احمد ابو جانا كان مشهده الحاد يدل علي انه ولد مقاتلا كفرد من افراد الصاعقة المصرية حيث عرض الصدر وامتلاء اليد وغلاظة الكف ,لكني عهدته انسانا رقيقا الي درجة الايثار ,فكان يقتسم كل ما يملكه مع كل الاصدقاء ,حتي علبة سجائره رغم قلة المال في يده لم تكن له وحده بل كانت متروكة للجميع. وللموضوعية فإنني التقيت مع من سبقوهم الي جبهة القتال الليبي بمدن عدة ,مصريون عاهدوا الله علي مناصرة القضية بكل مايملكون , التقيت بمن سبقوا الي الجبهة للقتال ,وشجعوني ان اذهب الي اجدابيا لمعرفة ما يدور هناك وما يرويه الاشقاء الليبيون عن البطولة والفداء المصري. اغلب المصريين رفضوا ان يذكروا اسماءهم ليس خوفا وانما تلخصت فلسفتهم بجملة واحدة "ان يكون العمل خالصا لوجه الله " ومنهم الشاب المصري محمد ابو عيسي من ابناء الاسكندرية واحد ابنائنا الذين عادوا لتوهم من خط النار , الا ان المهنة دفعتني لان اكون لصا واسرق صورهم عبر ضغطة خفيفة علي زر الكاميرا بعد ان عطلت فلاشها ,واحسبها سرقة نبيلة كوني اردت ان اوضح نموذجا مشرفا لمعالم الرجولة المصرية. ويروي محمد ابو عيسي قائلا :" القتال علي الجبهة الليبية اثبت ان المصريين ليسوا اشقاء لليبيين فقط بل هم شركاء معهم في همهم وقضيتهم ,والحق ان الليبيين بحاجة ماسة الي دعم عسكري نظرا لعدم امكانية تواجد سلاح ثقيل معهم وهو ما يرجح دائما كفة كتائب القذافي التي تتعمد استخدام قاذفات الجراد للتطهير ,ويكتفي الثوار فقط بالرد عبر الآلي "7.62*39" وهو سلاح الي حد كبير خفيف ,كما ان الثوار الليبيين بحاجة الي تنظيم خطواتهم والتدريب علي استخدام السلاح مخافة الاستخدام العشوائي الذي يؤدي الي تفريط كبير في الذخيرة ". حكاية عبد الرحمن الغريب ولا تحسب عزيزي القارئ ان ما سأقصه لك هو قصة نسجها الخيال الصحفي ولا هي ضريبة التشويق اعرضها عليك مزيفة انما ما سأذكره لك هو ما حدث حقيقي وأكده الجميع مع عبد الرحمن الغريب ,البداية كانت مع احد شباب ليبيا علي الجبهة حين شدني بمنطقة اجدابيا ,كان ذلك منذ اسبوعين تقريبا وقال الشاب الليبي :"توا...اكتب عن الشيخ عبد الرحمن المصري ..المصريا يسموه عبد الرحمن الغريب "..وكان دليلي هنا في اجدابيا هو احمد ابو جانا الشاب المصري الذي تحدثت عنه من قبل "سألته عن حكاية عبد الرحمن الغريب " فقال :"عبد الرحمن الغريب ..ده حدوتة شاب مصري ما جبتوش ولادة .هو قالي انه من الدقهلية من بلد الشيخ الشعراوي . شاب يملك خبرة التعامل مع كل الاسلحة ,جميع من في الجبهة لا يستطيع تحديد عمره ,فلما كنا نسأله عن عمره .كان يرد بابتسامة وضحكة طفولية :عمري بيد الله "..كان يتقافز من بين الاسلحة ,مرة يجلس علي سلاح "م.ط" المضاد للطيارات ومرة تانية يقود سيارة ,ولما اسر الثوار الدبابات من كتائب القذافي كان متمرسا في التعامل معها وامر الثوار بعدم اتلافها وانه سيقودها لهم وبالفعل " يسمع الشاب الليبي الحوار بيني وبين ابو جانا فيتدخل "وحد الله يا مصري ...عبد الرحمن هادا ما هو بشر هو ملاك ...انا بعيني رأيته بيطير في الجو ..وظل يضحك ..والله والله هو ملاك ما هو انسان " اين عبد الرحمن ؟..اللغز الذي اسرني لمعرفة اي تفاصيل عنه وان باتت الاقوال والآراء كلها مختلفة حتي في اماكن تواجده ,اقسم شاب ليبي انه رآه بمنطقة رأس لانوف في حين اقسم شاب آخر بانه رآه بمنطقة البريقة مع الثوار .واقسم ثالث ان عبد الرحمن الغريب جريح بمستشفي الجلاء ببنغازي ..الجميع يجمع علي ملامحه :"شاب ببشرة بيضاء لا تعرف له عمرا , احيانا يكون شابا في العشرين ومرة في الثلاثين ,ولما تشاهده علي ال"م.ط" وكأنه عنده خمسين سنة .دائم الابتسامة . عبد الرحمن الغريب الذي راح الليبيون يؤكدون لي انه ولي صالح مصري من رجال عمر المختار بعثه الله للثوار ليعينهم ويثبت اقدامهم ,وان شاهدهم في هذا انه كان سريع الاختفاء ,والتنقل ولم يبت ليلة مع الثوار ,وانه في اوقات الاذان كان يختفي ليعود مشرق الوجه ويتبادل الابتسام معهم .وكانت كلمته اثناء تبادله القصف :" يا كريم ...يا قوي ...يا سيدي يا رسول الله " عبد الرحمن الغريب لغز آخر من الغاز المعركة هنا وشاهد علي روح مصرية طافت بارض ليبيا وحملت السلاح .من اصدق ومن لا اصدقه "هل اصدق الرجل الذي اقسم انه تركه منذ ساعة عند مدخل البريقة ..ام اصدق الرجل الليبي الذي اقر بان عبد الرحمن جريحا بمستشفي الجلاء ,,ام اصدق ذلك الشخص الذي اقسم انه مازال براس لانوف يسيطر مع الثوار علي منابع النفط وآخر يقسم ثلاثا ان عبد الرحمن يحمل الرجال الجرحي في طريق اجدابيا ويساعد كبار السن في التنقل ويجلب الوقود للسيارات المتعطلة ,,لكن الجميع اكد انه عبد الرحمن المصري .... الهلالي .احمد ابو جانا ,ابو العلا ,فضيلة ,الدكتور اسامة فتوح ,محمد ابو عيسي ..المسعف مختار الذي يعلق صورة عبد الناصر في حافظة نقوده متيما بكبرياء الرجل وفكر القومية الحقيقية .الطبيب احمد زغربان والطبيب محمد بدراوي . إلا أن الحق يقتضي ان اذكر الطبيب المصري اسامة فتوح استشاري التخدير ,الرجل الذي لا يؤمن بقاعدة الزمن واحكام السن بعد ان تمرد عليها ,فلا مضض من ان يقوم بخمس عمليات جراحية يوما ودون توقف ودون ان ينال قسطا لو سويعات من الراحة .لتحسبه انت وكأنه شاب في العشرين لولا بياض شعر رأسه الذي يكشف سنه ويؤكد لك انك امام رجل جاوز الاربعين ومازال يحتفظ بروح العشرين ,الطبيب المصري الذي يحدثك وكانه تفرغ لقضيته .اذكره هنا بأرض الوطن وهو يحدثني عن حلمه في ابنته طالبة الطب التي وهبها لوجه الله ولخدمة القضية قائلا لي :"حتي ابنتي الصغيرة فاطمة ...التحقت بكلية الطب لتكون كأبيها شاردة في ملكوت الله تغيث الجرحي وتهبهم حياة بمشيئة الله..."