كنت قد عزمت، عزيزى القارئ، أن يكون مقالى لك عبر هذا العدد تتمة وتكملة لما سردناه فى الحلقة الماضية من باب «بريد الوفد» وذلك ما جاء بعنوان «إجهاض للحب» ولأننا نقع جميعاً ضمن دائرة قدرية، ولا تندهش من قولى إذ قلت فى سرك أيها القارئ النبيل عن سبب الربط بين الحراك القدرى والمقال الذى بين يديك، فدعنى إذن أخبرك عبر تجربتى الحياتية المتواضعة أن مفعول الكتابة أيضا هو فعل قدرى، حتى الربط بين التفاصيل هو ضمن المنظومة القدرية التى نتحرك خلالها ونملك معها قدراً من الاختيار يجعلنا مسئولين عن أفعالنا التى سنحاسب عليها. الأمر أشبه بأجزاء المكعبات التى يجتهد فيها أطفالنا لتكوين شكل أو مجسم لعلهم بفعلهم وجهدهم يلقون حفاوة من أحد الوالدين أو كليهما، لا أخفيك سرا أننى أثناء ممارسة الفعل الكتابى أكون مثل ذلك الطفل الذى يجتهد فى تكوين شكل مجسم، مستخدماً الأحرف والكلمات بديلاً عن مكعبات الأطفال كى أبهرك بصنيعى وتزدهر فرحتى وبسمتى أن يعجبك التشكيل والبنيان الذى أقصه لك، إذن سيكون سؤالك عزيزى القارئ الذى أنهكه معى دائماً عن سر عدم المواصلة فى الموضوع الماضى وتكملته عبر هذا المقال؟، أولاً: دعنى أعتذر لك عن حالة الشغف التى سببتها لك عبر رغبتك فى مواصلة ما تم سرده فى حلقة العدد الماضى، ثانياً: سأبرز لك بعض أسباب حيرتى وعدم قدرتى على مواصلة الحدوتة التى عنونت «باجهاض الحب»، لقد راسلنى أحد طرفى المعادلة وطلب منى أن أكتفى بعدم نبش الجراح، وأنه قد أعلن استسلامه لحالة الصمت والكمون التى أصابت العلاقة، ثم إن بعضاً من أفراد دائرته الخاصة قد رأى فى الأمر نوعاً من الذيوع هو لا يفضله كونه يعمل بالعمل السياسى، وقد احترمت رغبته، لذا فاغفر لى عزيزى القارئ كونى لم أستطع أن أكمل معك ما ابتدأناه سوياً، لكنى هنا وعبر هذا العدد، دعنى أخبرك بحدوتة من نوع آخر، حدوتة التحول فى النفس البشرية حين تتعرض لمسار التجربة. «حول دكتور جيكل ومستر هايد.. النسخة المصرى» يقول أشقاؤنا المسيحيون فى صلواتهم «ولا تدخلنا فى التجربة»، وكنت أتوقف أمام هذه الآية من الكتاب المقدس، محاولاً الفهم لما تود ان تقوله هذه الأحرف، حيث التجربة لبيان معدن الذات البشرية ونواة تكوينها الأولى، وقد أيقنت أن الإنسان نفسه لا يعرف ولا يقدر ولا يستطيع أن يقيم ذاته أو يعرف معدنها حتى يمر بأعتى الاختبارات وهو محل «التجربة»، فالجميع يتغنى بالشرف طالما لم توضع أمامه الرشوة بشكلها العينى ومفعول أوراقها الملون وقتها فقط يستطيع الحكم على نفسه التى يجهلها طيلة معاشرتها له كل هذا الردح الزمنى، الحكم بالشرف أو عدمه. وكان لى صديق من مدينتى الصغيرة طنطا يعمل طبيبا للفك والأسنان، تبدو على ملامحه سمات الطفولة بشكل يبرز للجميع ويتجلى للكل بأنه ذلك الطبيب الذى يحمل بداخله طفلاً، جمعتنى به سنوات من الصداقة، وقد شهدت له بفعل الخير ومساهمته فى العديد من جراحات الفك للأطفال غير القادرين وأحياناً كان يرفض أن يتقاضى الأجر، منذ سنوات قاربت الثلاث، طلب منى صديقى الطبيب أن يلتقينى، وكنت شغوفاً لهذا اللقاء، فابتدأ لقاؤنا بأنه ينتوى أن يشتغل بالعمل السياسى، شد انتباهى حديث الرجل ذى الملمح الطفولى، وقلت له: «لكن انت طبيب ناجح.. لما تود أن تشارك فى العمل السياسى.. ربما سيأخذ هذا من وقت عملك ووقت أسرتك؟.. لكنه أجاب بأنه يستشعر فى نفسه قدرات تؤهله للمشاركة فى حزب سياسى وليد، وربما يفيد الناس بشكل أكثر، الحقيقة أننى لحظت فى صوته إقداماً فى اتخاذ القرار وأن الأمر لا يتعدى سوى أنه جاء لا ليستطلع رأى بل كان بحاجة إلى سماع ما يريحه لأنه بالفعل قد أقدم على ما انتواه، فى هذه الجلسة لم أتكلم معه كثيراً وإن كان إنصاتى له أكثر، سرى فى داخلى رهبة تجاه هذا الحس، استشعرت مرارة التجربة التى مررت بها، ثم دارت فى رأسى مجموعة من تصورات قديمة وذكريات أشد ألماً على النفس، كان هو بحاجة إلى موافقة ضمنية تريحه، وكنت أنا بحاجة إلى مصارحة لما بداخلى فتريح ضميرى، فى هذه اللحظة قلت له: «اسمع يا دكتور أنا أعلم أنك قد قررت بالفعل وأنك لم تأت لمشاورتى، لأنك لم تستمتع ولن تسمع إلا لنفسك، ربما تقول لنفسك أنك أعتى مهارة وأكثر فهما ممن هم فى الملعب السياسى الآن، وانك صاحب المجموع الأكبر فى الثانوية لذا فإن الأمور بسيطة، الحقيقة أنك بهذا تجاهلت قاعدة معرفية وعلمية هامة هى قاعدة الذكاءات المتعددة، ربما تكون نابغاً فى الذكاء الطبى والعلمى، لكنك لست بهذا القدر فى الذكاء الاجتماعى أو المنطقى أو اللغوى، بقى شىء شديد الأهمية والخطورة، ان الملعب السياسى يخاطب فى النفس البشرية أعتى وأصعب وأشرس غريزة إنسانية هى غريزة السلطة، تلك الغريزة التى لم يكتشف أحد دواء لها فى عالم الطب، وأخشى ما أخشاه أن تتبدل بفعل الأيام ومخاطبة هذه الغريزة لشخص آخر انت نفسك ستجهله، .. قاطعنى هو قائلاً: «يا عمنا من غير تنظير وفلسفة زايدة. أنا سأخوض التجربة»، ثم عدل من وضع نظارته على عينه وطلب فاتورة حساب المقهى وتركنى ثم انصرف. فى عام سنة 1886، كتب الأديب الاسكتلندى روبرت لويس ستيفنسون روايته الخيالية «دكتور جيكل ومستر هايد» رواية تتناول حياة طبيب مشهور ومرموق يسعى للخير ويشارك فى رفع عناء المرضى الفقراء، لكنه أراد أن يعبر عن بعض النزعات الشريرة البرغماتية النفعية داخله، أراد أن يمارس فعل الكذب والمقامرة والسرقة أحيانا والغش، فتنكر فى صورة أخرى وسمى الشخصية الجديدة التى تنكر فيها باسم مستر هايد «التى تعنى فى اللغة الإنجليزية المخفى أو الخفى» ولا أعنى بتنكره هنا أنه اخترع قناعاً، بل أنه بدأ فى مخالطة مجتمع آخر وعرف نفسه بأنه السيد هايد وليس الدكتور جيكل الطبيب النبيل، ومع مرور السنوات احتدم الصراع بين الشخصين اللذين يعيشان داخل إنسان واحد، وأصبح التساؤل الملح لصاحب الشخصيتين أيهما هو... هل هو الطبيب النبيل أم هو ذلك الشخص الذى يتملق ويكذب ويسترضى الآخرين سعياً للسلطة ويتنازل دوماً من أجل إرضاء نفسه التى تسعى دائماً للثراء والشهرة والمتعة. مرة أخرى أعود إلى صديقى طبيب الفك والأسنان، وقد التقيته بعد مرور سنوات ثلاث أو يزيد، التقيته على نفس المقهى، كان الجسد لم يتبدل فى بدانته أو هيئته التى اعتدت رؤيته عليها، كذلك كان ملمح الصوت الذى يتحدث به، لكن ثمة جداراً قد أنبنى بينى وبينه، فلم أعد استشعره، صار شخصا مموها، لم أستطع تبين حقيقة بسمته من صمته من غضبه من حزنه، بات اللقاء بيننا بعد هذا الغياب جافاً، كان يحدثنى عن انتصاراته فى العمل السياسى فى الحزب الوليد، عن ترقيه لمنصب داخل اللجنة العليا بالحزب، عن إعجاب الناس بحديثه الرنان داخل المؤتمرات واللقاءات، عن تطلعاته السياسية وآماله الكبرى، كان يتحدث وكنت أكتفى بفعل الصمت فقط.. لم أنظر ولم أتفلسف هذه المرة، لكنى شعرت باغتراب عنه، رن جرس هاتفه، كان يتحدث بنبرة من النفاق المفتعل، أغلق هاتفه، ثم أخذ يسب فى محادثه.. استشعرت رغبة فى إنهاء اللقاء لكنه لم يتركنى لأبادر بنهاية لقائنا، اعتذر هو عن تكملة الجلسة. ثم ابتسم فى اصطناع يبدو أنه اعتاد عليه.. لكننى وجدتنى أقول له: «فى رواية مهمة أرجوك حاول تقرأها» سألنى عن اسم الرواية فأجبته: «اسمها دكتور جيكل ومستر هايد».