فى يوم الاثنين 3 فبراير 1975، رحلت كوكب الشرق أم كلثوم، أقوى ظاهرة غنائية فى تاريخ الأغنية المصرية والعربية، صوت نادر قل أن يجود به الزمان، رحلة إبداع غنائية استمرت أكثر من نصف قرن، المجلدات لا تكفى للتعبير عن عشق الملايين فى مصر والعالم لكوكب الشرق. أغانيها مازالت على الأسماع، أضافت «ثومة» للأغنية الكثير والكثير بل نقلتها لمكان آخر بعد أن كانت تعانى من الركاكة فى أوائل القرن الماضى، لسنا بصدد عرض لتاريخ أم كلثوم ولكن ما سر هذا السحر فى غنائها وصوتها، أغنيات وقصائد غنائية قمة فى الرقى، لم تتوقف أبدا عند محطة معينة بل استطاعت بذكاء شديد تطوير نفسها باستمرار حتى بعد أن تجاوزت السبعين عاما. أبدعت كوكب الشرق أكثر من 1000 أغنية لا مجال بالطبع لذكرها ولكننا نتوقف عند بعض الأغنيات الرائعة التى عكست محطات مهمة فى تاريخ كوكب الشرق وبالطبع تمثل علامات مضيئة للغاية فى تاريخ الأغنية العربية، أغنية «رق الحبيب»، تأليف أحمد رامى ألحان محمد القصبجى، غنتها كوكب الشرق أوائل الأربعينيات، معانى فى قمة الرقى، «رق الحبيب وواعدنى يوم وكان له مدة غايب عنى، حرمت عينى النوم». لمن لا يعرف نقول: إن هذه الأغنية بالذات كانت أم كلثوم تعشقها وتعتبرها من أحلى أغانيها، كانت تسمعها وتقول «الله يا ست». «أنا فى انتظارك»، تأليف أحمد رامى وألحان رياض السنباطى غنتها فى أواخر الأربعينيات، وكانت هذه الأغنية عبارة عن رسائل وجهتها كوكب الشرق بصوتها لجنود مصر وضباطها المحاصرين فى الفالوجا. «مصر تتحدث عن نفسها»، تأليف حافظ إبراهيم وألحان رياض السنباطى غنتها عام 1952، عقب حريق القاهرة، غنت بشموخ «وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد وحدى» أغنية وطنية من العيار الثقيل جدا صالحة لكل زمان. «هو صحيح الهوا غلاب» كلمات بيرم التونسى ألحان زكريا أحمد، غنتها كوكب الشرق عام 1961، وبعد خصام طويل للغاية مع الموسيقار الراحل زكريا أحمد لكنها غنتها أيضا بتأثر شديد عقب وفاة شاعرها بيرم التونسى، كلمات ولا أروع «هو صحيح الهوا غلاب معرفش أنا، والهجر قالوا مرار وعذاب واليوم بسنة». «كل ليلة وكل يوم» تأليف مأمون الشناوى وألحان بليغ حمدى، غنتها كوكب الشرق عام 1962، كلمات وأحاسيس على أعلى مستوى، «كان قربك هنا وحنية وليالى جميلة هنية، طار بيا الأمل بجناحه ولمست النجوم بإيديا وفى بعدك يا عينى عليا». «انت عمرى» لقاء السحاب، وأول عمل فنى يجمع بين العملاقين أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، غنتها مساء الخميس 5 فبراير 1964، كلمات أحمد شفيق كامل، وحققت الأغنية نجاحا أسطوريا فاق كل توقع، وكانت فرحة الموسيقار محمد عبدالوهاب لا توصف خلف الكواليس ولأول مرة تستخدم فرقة أم كلثوم الجيتار.. «الأطلال» قمة الغناء العربى والشموخ، تأليف إبراهيم ناجى وألحان رياض السنباطى، غنتها أم كلثوم لأول مرة يوم 25 مارس 1966، وغنتها أيضا عدة مرات داخل مصر وخارجها لتعكس حالة خاصة للغناء والقصائد المغناة. كلمات رائعة ولحن أسطورى للسنباطى من بين الكوبليه الأخير «يا حبيبى كل شىء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء، ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء فإذا أنكر خل خله وتلاقينا لقاء الغرباء ومضى كل إلى غايته لا تقل شئنا فإن الحظ شاء». «ألف ليلة وليلة» تأليف مرسى جميل عزيز وألحان بليغ حمدى، غنتها أم كلثوم عام 1969 كانت أغنية مرحة وتدعو للتفاؤل، وكان الرئيس جمال عبدالناصر قد طلب من كوكب الشرق أن تغني هذا النوع من الأغنيات عقب نكسة 1967. أغنية «ودارت الأيام» تأليف مأمون الشناوى، ألحان محمد عبدالوهاب، غنتها أم كلثوم عام 1970، أبدع عبدالوهاب كثيرا فى هذا اللحن لدرجة أنه راهن كوكب الشرق أنها ستتمايل على المسرح رقصا أثناء عزف الكوبليه الثالث، وحدث ذلك بالفعل. هذه الأغنية بها جملة رائعة فى الكوبليه الرابع «ودارت الأيام ومرت الأيام، وهل الفجر بعد الهجر بلون الورد بيصبح ونور الصبح صحى الفرح وقال للحب قوم نفرح». «القلب يعشق كل جميل»، كلمات بيرم التونسى وألحان رياض السنباطى، هذه الأغنية باختصار حالة إيمانية شديدة الروعة والجمال غنتها أم كلثوم عام 1972، كلمات لم يسمعها من قبل المستمع العربى، «القلب يعشق كل جميل وياما شفتى جمال يا عين، اللى صدق فى الحب قليل وإن دام يدوم يوم ولا يومين، دعانى لبيته لحد باب بيته وأما تجلالى بالدمع ناجيته» وما أروعها وهى تشدو «مكة وفيها جبال النور طالة على البيت المعمور». «ليلة حب» آخر حفل لأم كلثوم غنتها فى 30 يناير 1973، تأليف أحمد شفيق كامل، ألحان محمد عبدالوهاب، أبدعت فيها أم كلثوم رغم معاناتها الشديدة مع المرض، وقفت بشموخ لأكثر من ساعتين تبدع «ليلة حب». مسك الختام «حكم عينا الهوا» غنتها فى مارس 1973، باستديو 3 بالإذاعة تأليف عبدالوهاب محمد وألحان بليغ حمدى، رغم شدة المرض لكن عشقها للغناء جعلها تبدع بصوت رخيم مرهف، «حكم علينا الهوا نعشق سوا وندوب واحنا اللى قبل الهوا شوف كنت فين وأنا فين». تظل أم كلثوم بعد 45 سنة من رحيلها حالة إبداع أسطورية لن تموت، أم كلثوم لم تكن مجرد مطربة عظيمة بل مؤسسة فنية ووطنية، سيذكر التاريخ موقفها المشرف الوطنى بعد نكسة 1967 حينما تجولت حول العالم وخصصت إيرادات جميع الحفلات لصالح المجهود الحربى حتى اعتلت صحتها تماما وتوقفت عن الغناء بداية من ربيع 1973. لا شك أن أم كلثوم موهبة نادرة للغاية وهى بلا جدال أحلى وأقوى صوت فى تاريخ الغناء المصرى والعربى، صوتها كان بمثابة بلسم وترياق لكل من يسمعها، رحم الله أسطورة الغناء العربى فى كل العصور.