أعلنت محكمة جنايات الجيزة مساء الأربعاء الماضى حكمها ببراءة جميع المتهمين فى التحريض على «موقعة الجمل»، وقالت فى موجز أسباب الحكم، إن السبب فى هذا هو انها لم تطمئن إلى أقوال شهود الإثبات لتضاربها، ولكونها جميعا سماعية، ولأن من بين هؤلاء الشهود عددا من المسجلين خطر،، ولأنها استشعرت أن وراء أقوالهم خصومات وأحقاداً حزبية وسياسية وشخصية مع المتهمين، كما أن الأدلة غير كافية للإدانة. وما كاد الحكم يذاع حتى سارع كثيرون -كما هى عادة هذه الأيام- باستنكاره والتعليق عليه، والتعبير عن صدمتهم لتبرئة المتهمين، والهجوم على هيئة المحكمة، التى أصدرته، واتهام النيابة العامة بالتقصير فى جمع الأدلة، وتعمد إخفائها، وهى ظاهرة شاعت فى السنوات الأخيرة، بعد أن تحول جميع المواطنين إلى قضاة، ينظرون فى القضايا، ويصدرون فيها الأحكام، فإذا ما جاء حكم المحكمة مناقضا للحكم الذى أصدروه، اتهم القضاة فى ذمتهم، واتهمت النيابة بإخفاء الأدلة، وانطلقت الدعوات إلى التظاهر والمطالبة بالإعدام. والحقيقة أن الحكم لم يكن صادما لكثيرين ممن تابعوا وقائع هذه القضية إلا بقدر محدود، إذ كان واضحا مما نشرته الصحف من أقوال الشهود، إنها تستند إلى بلاغات صدرت عن خصوم للمتهمين، واستندت إلى وقائع نقلوها عن آخرين، ولم يستطيعوا أن يقدموا أدلة مقنعة على نسبتها إلى المتهمين، على النحو الذى أشار إليه موجز حيثيات الحكم، والذى سوف يرد تفصيليا عند النشر الكامل للحيثيات ولأسبابها، خلال الأسابيع القادمة. وكان واضحا كذلك أن القضية التى حققها وقدم أدلة الثبوت فيها قاضى تحقيق، وليس النيابة العامة، قد تحركت تحت ضغط الجماهير، التى كانت تصر على تقديم متهمين بارتكاب الوقائع التى حدثت فى ميدان التحرير بداية فبراير 2011، دون أن يتقدم أحد من الثوار بشهادته، ضد الذين قدموا للمحاكمة، أو يوجه الاتهام إلى غيرهم ممن يكونون قد ارتكبوا هذه الجريمة البشعة، على نحو يمكن المحكمة من الحكم بإدانته. وكان هذا الضغط هو الذى أدى إلى تقديم القضية إليها بالصورة المهلهلة، التى أسفرت عن الحكم ببراءة جميع المتهمين. والمنطق الذى يقال عادة فى مثل هذه الأحوال هو التساؤل الساذج عمن ارتكب هذه الجريمة، إذا كان كل هؤلاء المتهمين أبرياء، وهو سؤال لا يجوز لأحد أن يوجهه إلى المحكمة، لأن مهمتها هى أن تفصل فيما إذا كان المتهمون بارتكاب هذه الجريمة هم الذين فعلوا حقا أم لا، أما مهمة البحث عن الذى ارتكب الجريمة فهى مهمة تقع على أجهزة جمع الاستدلالات، وهى تتركز فى أجهزة الأمن، والمحقق الذى يجرى التحقيق فى القضية. ومشكلة كثير من القضايا التى تتعلق بالجرائم التى ارتكبت أثناء الثورة، هى أن معظمها قد ارتكب خلال فترة كان جهاز الأمن فيها قد انهار، ولم يعد قادرا على القيام بعمله، وكانت أقسام الشرطة قد احترقت أو دمرت، وكان معظم العاملين فيها قد كفوا عن أداء أعمالهم، فلم يعد هناك جهة تستطيع أن تجمع المعلومات أو تقدم الأدلة، بل إن النيابة العامة نفسها كانت قد تعطلت عن العمل، ثم إن شهود الإثبات الذين تقدموا للتدليل على أن المتهمين الذين قدموا للمحكمة مدانون، ثبت أن معظمهم من المسجلين خطر، الذين لم تطمئن إلى شهادتهم، وأن الآخرين «شهود سماع» ينقلون عن غيرهم وليسوا «شهود رؤية». وكان لافتا للنظر أن أحدا من الثوار الذين كانوا موجودين فى ميدان التحرير أثناء الموقعة، لم يستطع أن يلتقط اسما لأحد الذين ارتكبوا هذه الجريمة، أو يتعرف عليه. وليس معنى هذا أن الواقعة لم تحدث، أو أنه ليس هناك من ارتكبها، ولكن ما انتهت إليه المحاكمة هو ان الذين قدموا اليها ليسوا هم الذين ارتكبوا الجريمة، وكان يتوجب على كل من لديه دليل ضد واحد منهم، أو ضد آخرين أن يتقدم به إلى المحكمة، وأن ينتظر حكمها ويسلم بصوابه، بدلا من أن يحل محلها، ويصدر أحكاما ضد المتهمين، وهو لم يقرأ ورقة ولم يستمع إلى شهادة شاهد، ولا إلى دفاع متهم لمجرد يقينه الحقيقى أنه لابد أن يكون هناك من ارتكب هذه الجريمة. وحتى لو افترضنا جدلا أن من بين هؤلاء المتهمين الذين برأتهم المحكمة من يكون قد شارك فى الجريمة، وأخطأت المحكمة فى تبرئته، فإن أمام الجميع جولة أخرى من التقاضى، هى التقدم بنقض ضد الحكم أمام محكمة النقض، ليتقدم كل من لديه دليل ضد هؤلاء المتهمين الى النيابة العامة، أو قاضى التحقيق للاستناد إليه فى الطعن على الحكم، فإذا اقتنعت محكمة النقض بهذه الأدلة، ألغت الحكم، وأحالت المتهمين أو بعضهم إلى دائرة أخرى تقوم بمحاكمتهم. وبدلا من أن يحدث ذلك –وكما هى العادة أيضا- خرجت الدعوات لتنظيم مظاهرات ومليونيات للاحتجاج على الحكم، وكان لافتا للنظر أن تكون «جماعة الإخوان المسلمين» أول من يدعو إلى تنظيم هذه المظاهرات، فى الوقت الذى لا يكف فيه جهاز الدعاية بالجماعة وبحزب الحرية والعدالة، فضلا عن رئيس الجمهورية نفسه، عن مطالبة الجماهير بأن تتوقف عن المظاهرات والاضرابات الفئوية، لأنها تعطل الإنتاج، وتطفش المستثمرين، وتؤدى الى مزيد من التدهور فى أوضاع البلاد الاقتصادية. بل وصل الأمر إلى الحد الذى خرج فيه قطب الجماعة والحزب، ورئيس لجنة الحوار المجتمعى فى اللجنة التأسيسية للدستور الدكتور محمد البلتاجى معلنا أن اجتماعا سوف يعقد بين رئيس الجمهورية، وأقطاب الحزب، ووزير العدل لمناقشة الامر، وللبحث فيما سماه تطهير القضاء الذى وصفه بالفساد، فى إيحاء بأن الحكم هو من دلائل هذا الفساد. ولا أحد يعرف ما هى الصفة التى سيحضر بها الدكتور البلتاجى هذا الاجتماع ولا من الذى سيشارك فيه، وما هو الأساس الدستورى الذى يسمح لرئيس الجمهورية أو لوزير العدل أو للدكتور البلتاجى نفسه أن يجتمعوا ليناقشوا حكما قضائيا، سواء كان صحيحا أو خطأ، ولا تفسير لهذا الإجراء سوى أن جماعة الإخوان المسلمين، تحاول إثارة المواطنين للتظاهر ضد القضاء، تمهيدا لاتخاذ إجراءات وصفها البلتاجى وغيره من أقطاب الجماعة بأنها عملية تطهير للقضاء وإعادة هيكلة له، لكى يثأر حزب الحرية والعدالة من القضاة بسبب الأحكام التى أصدرتها المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، ولإفساد دعوة المعارضة للتظاهر أمس للمطالبة بحل الجمعية التأسيسية، لاتجاهها لصياغة دستور يعبر عن الحزب الحاكم، ولا يعبر عن المشتركات الوطنية بين المصريين.!!