قبل أن تتحول حديقة النقابة إلى حوائط أسمنتية، كنت أراه جالسا يتذكر لمن يجالسه ما كتبه من أخبار وموضوعات ومقالات، سمعته كثيرا يذكر أسماء وزراء وبعض المسئولين ونخب سياسية وأدبية وفنية، يمتلك ذاكرة حديدية ، يحمل أرشيفه في رأسه، يجتر منه عناوين وتواريخ وأرقام صفحات، يستدعى ما ميزه، أحيانا يميل إلى حقيبته ، يدس يده ويخرج قصاصات صغيرة ويشير إلى اسمه، ويروى كيف كان بعضها حديث الشارع والحكومة وزملائه فى الجريدة، بعد دقائق من اجتراره للحكايات والقصاصات الورقية، يتسرب من حوله الجالسون معه على الطاولة، لحظات ويكتشف أن الطاولة خلت إلا منه، يرفع الحقيبة ويعيد إليها قصاصاته الورقية، ويغلق نافذة الحكايات التى فتحها فى ذاكرته، ويدخل في كرسيه ويمد رجليه في الشمس، وقبل أذان العصر يحمل حقيبته ويخرج من النقابة عائدا إلى المنزل. منذ عدة سنوات قابلته هو أو شبيها له يقف في طابور الخبز بسوق مدينة المعمورة، يناقش من يقف أمامه وخلفه في إحدى القضايا المثارة إعلاميا آنذاك، فوجئت به يختتم استشهاداته بجملة أغرقتنى داخل العابر واللحظة: أصل أنا كنت صحفي... كنت؟، كنت؟.. كنت؟. كنت في بداية حياتي الصحفية، مفعما بحلم التغيير، في كتابة رومانسية تصنع حياة درامية لا نراها سوى فى السينما، كتابات ترفع الظلم والقهر والفساد عن كاهل الفقراء والبسطاء، كتابة تصنع بطلا أقرب من أبطال الحواديت التى تربينا عليها، كتابة تغيير النظام الحاكم، ترسى قواعد للعدل الاجتماعى. عندما شاهدته لأول مرة فى حديقة النقابة تخيلتني فيه، وتيقنت انني سجين العابر واللحظة، عدت إلى غرفتي تحسست عدة ورقات صحفية كانت نواة لأرشيف لحظة وراء لحظة، قرأت ما نشرته : .. أحرف سوداء صغيرة ، عبارات إنشائية فارغة ، ماذا فعلت ؟ ، ما الذي يتبقى منها؟، مجرد أخبار وموضوعات وتقارير وحوارات ومقالات مرتبطة بالعابر واللحظة، العابر يمر ويختفى، واللحظة تتغير ويولد منها لحظة أخرى مرتبطة باللحظة. قلبت فيما نشرت وتخيلتني أجلس في حديقة النقابة، أجتر من ذاكرتي عناوين وتواريخ وأرقام صفحات، وأحكى العديد من القصص التي ولدت ونسجت في أوهامي، ضحكت بسحرية ورميت الأوراق بطول زراعي، ما فائتها؟، ما الذي سيتبقى منها؟، من الذي سيتذكرها بعد أسبوع أو شهر أو عام أو بعد أن أموت، جميعها كتابات وقتية مرتبطة بالعابر واللحظة.. لماذا أحتفظ بها؟، وما الذى سيفهمه أولادي أو أحفادي منها؟، مجرد كتابات تتناول مشاكل ومواقف مرتبطة باللحظة. النقاش ليس له أرشيفه، لا يحمل صور المنازل التي دهنها، والسباك لم يحتفظ بعناوين المنازل التي دخلها، ماسح الأحذية لا يذكر عدد الأرجل التي وضعت أمامه، ولا يذكر ملامح أصحابها أو لون بشرتهم، ينكفئ على الحذاء يغسل ويجفف ويورنش ويلمع، عندما ينتهي من واحدة يضرب بالفرشاة على الصندوق، يعطيه الزبون الأخرى، الطبيب لا يتذكر أسماء أو ملامح من كشف عليهم او اجرى جراحة لهم. لماذا أحتفظ بما ارتبط بالعابر، بما وصف لحظة ؟، بعضنا ينشر اسمه يوميا ، وبعضنا ينشر اسمه كل لحظة، وبعضنا يكتب ويتكلم في التلفاز، وبعضنا يحفظ اسمه أبناء اللحظة لتكرار ظهوره فى كل لحظة، عند تقاعده أو ابتعاده لفترة تتداخل ملامحه بالآخرين، ويتوه اسمه بين الأسماء، ويصعب تذكره بين أبطال اللحظة، بعضنا يحارب ويقاتل ويطعن ويشي من أجل العابر واللحظة، وبعضنا ينسحب وينطوي ويتأفف ترفعا من مزاحمة محترفي اللحظة، بعضنا لا يرى اللحظة، وبعضنا يتمنى اللحظة، ومعظمنا انجرف لحظة وراء لحظة، نسير بقصاصات ورقية، نتقمص ملامحه، طريقته في الحكى، كيفية جلوسه، نجتر من ذاكرتنا أرشيف سنوات من اللحظة، نرتدي ثوب الأبطال والشرفاء وكتاب اللحظة، ونتوهم أننا نغير بالفعل اللحظة.