قرية «السلامية الحائط» مركز نجع حمادى - قنا، ربما ميزت كلمة «الحائط» القرية عن قرى مماثلة تحمل نفس الاسم فى محافظات أخرى بالجمهورية، غير أن مدخل القرية الحالى يبدو مناسباً لاسمها.. سيصادفك أول البلد عدة حوائط، عدة تعرجات بالطريق محاطة بأسوار حول الأرض الزراعية التى بدأت بالتآكل بالزحف العمرانى عليها، أفقدتها طابع مداخل القرى الطولية المستقيمة المعتادة إلى أن يعتدل الطريق بعد انحناءات.. زقاق يسلمك للآخر حتى تصل إلى مقر البتول. تتوقف سيارة الأجرة عند أول القرية وسط صيحات متطوعى التنظيم من شباب البلدة لقائدى المركبات، لإخلاء المكان فور إنزال الزوّار، وإفساح الطريق لغيرهم، ستنال ترحيبًا لا ينقطع لو قرأت اللافتات المكتوبة والتى ستصاحبك فى الطريق بأضواء كثيفة وبوحدات خشبية رمزية لكنائس ومعها أيقونات العذراء معلقة بعرض الطرقات وقد تنال أيضاً حبة من المنون تلك المخبوزات التى تعدها ربات البيوت خصيصًا فى صيام العذراء، يأخذك زقاق لآخر ويضيق الطريق تارة ويتسع تارة أخرى إلى أن تكون مجبرًا أن تندمج فى الزحام. فى تلك الأزقة تظهر تيمات المولد.. بائعو الحلوى والمكسرات الشعبية والدمى ولعب الأطفال ودقاقى الوشم وأيقونات السيدة العذراء، حاستان من الحواس تنهكان فى رحلة الوصول إلى «أم عيسي».. البصر والسمع؛ تصدح مكبرات الصوت بمدائح مريم ولا تنقطع إلا للضرورة القصوى كما لو أن طفلًا غاب عن أهله فى الزحام، ستسمع أيضاً الزغاريد وأصوات الدفوف والشدو فى «حبك يا مريم»، ومع النسمات المحملة بروائح المحاصيل من الزراعات القريبة ستندمج أكثر رغم الزحام، كل الأعمار تترجل جوارك وكل الشرائح الاجتماعية، تذوب الفوارق لبعض الوقت فى هذه الأزقة. لا تبوح البيوت عن حالة السكان الاقتصادية وتذوب بيوت ال7 عائلات القبطية الأساسية بالقرية، وسط الكتل السكانية المتراصة دون تنظيم عمرانى، غير أن هناك عدداً من البيوت العتيقة المميزة المشيدة من الطوب اللبن والأخشاب والشرفات والشبابيك المشربية المحتشمة والتى تغلق بأبواب خشبية وتؤمن بمتاريس من الخلف ولا تتجاوز الطابقين علوًا وهى مغلقة ومهجورة ولا تفتح إلا أيام الموسم بحضور ملّاكها الذين هجروها إلى المدينة أو إلى محافظات أخرى، أما أغلب البيوت الباقية تشبه المنازل العادية فى كل القري. يحضر المغتربون من أبناء القرية إليها خلال أيام الموسم وتعود الحياة إلى هذه البيوت العتيقة تفتح دواوينها وتضاء مداخلها، أما الشرفات فتزين بأيقونات مضيئة السيدة العذراء عليها السلام، أمام تلك المنازل يجلس ملّاكها وأسرهم على كراسى، وهنا يحدث تصنيف تلقائى يفضل البعض الجلوس فى هدوء واستقبال من يعرفونه من الزوّار الوافدين إلى القرية ويدعونه للضيافة والبعض الآخر يفضل المظاهر الاحتفالية الصاخبة أمام منازلهم. عذراء السلّامية ليست كنيسة ككل الكنائس المسماة ب«أم عيسي» والمنتشرة فى كل أسقفيات الطائفة الأرثوذكسية فى الجمهورية، لها خصوصية مميزة، فى سنة 1912 نشر عالم القبطيات البريطانى سومرز كلارك عضو لجنة حفظ الآثار العربية وعضو جمعية آثار الإسكندرية آنذاك، نتائج جولته لتسجيل الكنائس والأديرة فى مصر والسودان فى كتاب «الآثار القبطية فى وادى النيل دراسة فى الكنائس القديمة»، مر كلارك على عذراء السلّامية مرورًا سريعًا وذكر اسمها فقط وقال إنها تتبع إيبارشية قنا مع عدد آخر من الكنائس التى زارها فى مديرية قنا وقتها. الشائع بين الأهالى أن كنيسة عذراء السلّامية بنيت فى نهايات القرن الثامن عشر وجددت فى سبعينيات القرن الماضى، وهذا حسب الروايات يرمى إنها أثرية غير أن مرور سومرز كلارك عليها دون دراسة لمبانيها يشكك فى كونها أثرىة، لأن دراساته كانت مستفيضة فى شرح الأطرزة وطرق البناء ومواده فى كل الكنائس والأديرة الأثرية التى مر عليها، ويرجح أيضاً أنها لم تسترع انتباهه كونها بسيطة التخطيط والطراز ومبنية من الطوب اللبن وقت زيارة عالم القبطيات البريطاني. السلّامية الحائط أو السلمية لا تبتعد سوى كيلومترات عن تجمعات رهبنة الشركة التى أسس لها الأب باخوميوس فى القرن الخامس الميلادى فى فاو والقصر وتخومهما، ربما كانت السلّامية جزءاً من التجمعات الرهبانية المندثرة بمرور الزمن أو لحوادث عارضة، هناك ديرين يجاوران عذراء السلامية الأول هو دير أنبا بلامون ببلدة القصر وهو مفتوح للزيارة ويحوى كنيسة أثرية مازالت موجودة، والآخر هو أطلال دير باخوميوس بقرية فاو والديران يقعان إلى الشرق من مدينة نجع حمادي. ومن الخصوصية التاريخية ل«عذراء السلّامية» إلى خصوصية أخرى متعلقة بعاصمة افتراضية موازية ل«عذراء درنكة» الواقعة بجبال محافظة أسيوط، أوجدت «عذراء السلّامية» مساحة لنفسها لتكون عاصمة للحب المريمى جنوبًا، طيلة السنة وتتجلى أكثر خلال أيام الصيام ال15 وليلة الختام، مقصداً لمحبى «أم عيسي». ومن لا يستطيع الحج إلى درنكة أمامه زيارة السلّامية والحصول على فيوضات الحب من «أم النور»، تقع القرية بالطريق الزراعى الشرقى وهو ما يسهل الوصول إليها من كل المناطق المجاورة بتكلفة وعناء لا يذكر مقارنة بالذهاب إلى درنكة البعيدة شمالًا، فضلًا عن هذه الروحانيات المتدفقة التى يتلمسها المحبون هناك. على حائط مضيفة الكنيسة ووسط صور رجال الدين والأساقفة، تظهر صورة استثنائية ملفتة لرجل مهيب ووقور يرتدى الجلباب البلدى والعمامة فوق رأسه.. اسمه بطرس عجايبى وكان أحد نظّار الكنيسة، غير أن وجوده وحده دون باقى النظّار المتعاقبين على هذا المنصب الشرفى يثير التساؤل، تعاقب على نظارة الكنيسة خلال القرنين الماضيين 6 نظّار هم: مينا عجايبى، بطرس عجايبى، مكسيموس إلياس، مينا المقرى، ميخائيل بديع، فتحى مترى، أما من يتولى النظارة حاليا فهى لجنة مشتركة من القساوسة وبعض الأهالى بإشراف مطرانية دشنا للأقباط الأرثوذكس التى تتبع لها الكنيسة. منصب النظارة هو منصب شرفى وله شروط أن يكون ناظر الكنيسة الذى يسير أحوالها المالية والإدارية، من أصحاب الملكيات ويتمتع بالأمانة والقبول، وهذا ما قاله فتحى صليب يسى، 75 عامًا، الذى يتولى منصب شيخ البلد الذى تتوارثه عائلته «البشايات» بالقرية منذ قرنين، يفسر شيخ البلد هذه الشروط فى اختيار النظّار؛ أن ذوى الحيثية قادرون على تحمل المسئولية. بطرس عجايبى من عائلة «الحقوق» ومن ذوى الأملاك، وكان متيماً بحب السيدة مريم حسبما يروى الأهالى، وصاحب أيادٍ بيضاء، فقد تبرع بجزء من أملاكه لصالح «عذراء السلّامية» رغم أنه أنجب 8 من الذكور والإناث، ومنها معصرة زيوت قديمة بمدخل القرية وأراض أخرى وأقام مشغلاً لتعليم فتيات القرية المسلمات والمسيحيات الحياكة والتطريز وساهم مع عائلات القرية فى إحلال وتجديد الكنيسة فى سبعينات القرن الماضى، وتبدو هذه الأسباب منطقية فى أن تتواجد صورته دون باقى النظّار فى مضيفة كبار الزوّار. عاصمة «بنت عمران»، أسست لنفسها مساحة كبيرة فى الذاكرة الشعبية منذ عقود، بالتوازى مع عذراء درنكة فى جبل أسيوط حيث إحدى محطات زيارة العائلة المقدسة إلى مصر، «الحمامة الحسنة» اختارت أن تحط أيضاً فى السلّامية.