غيب الموت زيفيريللى من الاستمرار فى التوهج والابداع؛ ولكن يبقى منه نبضه الخاص المفعم بالحياة فى دنيا الفن؛ بقوانينه الخاصة فى عالم لغة الصورة، والتى يسبقها دوما سلسلة هائلة من الاعداد؛ حتى لا تجد فى اعماله حوارات مبهمة لا يفهمها الجمهور، مع هذا الفيض الهائل من الابداع البصرى،الذى يغنيك عن الكلام ممسكا باقتدار بخطوطه الرئيسية؛ ومتمكنا بإبهار بالحبكات الجانبية.. الذى قضى على أسطورة صعوبة تحويل النص المسرحى إلى عالم سينمائى؛ ولما لا وهو ملك تحويل أعمال شكسبير إلى دراما سينمائية؛ لذلك منحته ملكة بريطانيا لقب «سير» شرفى تقديرًا لتحويل مسرحيات شكسبير إلى افلام، ليصبح الإيطالى الوحيد الحائز هذا اللقب. إنه فرنكو زيفيريلى الذى فارق الحياة بعد صراع طويل مع المرض والذى ازداد فى الشهور الأخيرة؛ لذلك لم يكن غريبا أن ينعاه رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبيه كونتيه مؤكدا تأثره الشديد لرحيل زيفيريلى، السفير الإيطالى للسينما والفنّ والجمال. أحد كبار مخرجي ومؤلفى السيناريوهات ومصممى الديكورات المسرحية والذى تذوقنا على يديه السينما الإيطالية فى أوج تألقها. واكثر مخرجى ايطاليا ذي فانتازيا خاصة به منذ اقتباسه فيلمه الاول عن الأوبرا الفرنسية «البوهيمية» 1976 لهنرى بورجيه. إنه القادم من فلورنسا مسقط رأسه ليصبح من عظماء الثقافة العالمية. والجميع يعلم أنه عاشق لتلك المدينة ؛لذلك أخرج فى 1966 فيلمًا وثائقيًا عنها «من أجل فلورنسا» مستعرضا بفيض من الشجن الفيضانات الرهيبة التى اجتاحت المدينة فى ذلك العام، لتلحق أضرارًا بالغة بكنوزها الفنية؛ ليجمع 20 مليون دولار لأعمال الترميم والإعمار وخاصة مع قيام الممثل ريتشارد بورتن بالتعليق بصوته فى الفيلم. مكتبته الخاصة بها أكثر من 10 آلاف مصنّف فنى وتاريخى؛ وخاصة فى الأدب والمسرح؛وموجودة فى وسط فلورنسا؛ حيث مقر المؤسسة التى أنشأها لجعل أعماله متاحة للجميع بعمارة شيدت بالأسلوب الباروكى على 4 آلاف متر مربع ؛هدية من بلدته له عند بلوغه الثانية والتسعين. ما بين نسخ تمهيدية ورسوم أولية للديكورات الخاصة لعروضه الأوبرالية، وافيشات وصور عشرين فيلمًا صوّره تعبر عن مسيرته الفنية. زيفيريلى المرشح مرتين للفوز لأوسكار، لإخراجه «روميو وجولييت» ومرة ثانية عن الديكور فى «لا ترافياتا».. هو الحالم بأوبرا «ريجوليتو» كان والذى لم يمهله القدر لتنفيذها فى السابع عشر من سبتمبر 2020 فى دار الأوبرا بمسقط؛ بعد إخراج أكثر من ثلاثين مسرحية وعرضت أوبراليا. زيفيريلى المايسترو؛ العبقرى صاحب البصمة والفكر الحرّ، أحد علامات القرن العشرين فى السينما والمسرح والأوبرا؛ والذى آثر الرحيل فى هدوء وهو صاحب الحياة المليئة بالصخب ؛حيث لم يرافقه فى تلك اللحظات بمنزله فى منطقة أبيا أنتيكا فى روما، سوى ابنيه بالتبنى بيبو ولوتشانو وطبيب وكاهن كنيسة القديس؛ ليوارى الثرى فى مقبرة الأبواب المقدسة فى فلورنسا. إنه السائر على خطى المخرج لوكينو فيسكونتى (المخرج المسرحى والسينمائى والأوبرا ؛ إلى جانب كتابة السيناريو. صاحب الفهد 1963 والموت فى البندقية 1971). من ينسى له اعماله الشكسبيرية «روميو وجولييت»، «عطيل» (1986) «ترويض النمرة» (1967)، الذى جمع أحد أشهر الثنائيات التمثيلية فى تاريخ الفن السابع: إليزابيت تايلور (1932 2011) وريتشارد بورتون (1925 1984).و«هاملت» (1990)، من بطولة ميل جيبسون وجلين كلوز. اما الأوبراليات، فمتمثّلة أساسا ب«لا ترافياتا» (1983)، المقتبسة عن أوبرا بالعنوان نفسه، ومحول رواية «جين آير» (1847) شارلوت برونتى (1816 1855) إلى فيلمٍ بالعنوان نفسه، عام 1996. «زيفيريللي» له افلام ذات ابعاد دينية بسبب قرب إقامته من الفاتيكان، منها سيرة حياة سانت «فرنسيس أسيزى» عام 72 وسباعية «jesus of Nazareth». ويسوع الناصرى المسلسل التلفزيونى البريطانى الإيطالى من إخراج فرنكو زيفيريللى وكتابة زيفيريللى وأنطونى بيرجس وسوسو تشيكى داميكو. هذا العمل الذى أُنتج سنة 1977 يروى ميلاد يسوع وحياته وخدمته وصلبه وقيامته. فيه يؤدى روبرت باول دور يسوع. ويشمل المسلسل نخبة من الممثلين الأمريكيين والأوروبيين منهم سبعة فائزين بجائزة الأكاديمية هم آن بانكروفت، إرنست بورجنين، لورنس أوليفييه، كريستوفر بلامر، أنطونى كوين، رود ستايجر وبيتر أوستينوف. وفيه قرأ زيفيريللى بصوته: «اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون».. أما رائعته «شاى مع موسوليني» المعبرة عن صعود الفاشيّة والتحوّلات المرافقة لها فى الاجتماع والسياسة والاقتصاد والمقتبس عن كتاب «السيرة الذاتية لفرانكو زيفريللي» الذى وضعه المخرج فى العام 1988، والذى يرى من خلاله أن موسولينى كان رجلًا جعل قطارات السكة تعمل بانتظام. مستعرضا جانبًا آخر من شخصية موسولينى؛ لم تقدمها السينما من قبل ؛حيث تدخل ايطاليا الحرب، بعد الهجوم اليابانى على بيرل هاربر واعلان اميركا دخولها الحرب مع الحلفاء، السيناريو لزيفريللى مع جون مورتيمر ليقدما فترة هامة من التاريخ الاوروبى. أما قصة حبه فتبدو فى فيلم «ماريا كالاس للأبد» الذى تدور أحداثه حول الفترة الأخيرة فى حياة النجمة الاوبرالية الشهيرة ماريا كالاس، والتى ارتبط بها بعلاقة حميمة استمرت نحو ثلاثين عامًا، كما أخرج لها عددًا من الأعمال الاوبرالية؛ كاشفا من خلال الفيلم عن بعض الجوانب الغامضة فى شخصيتها. من فشلها فى زواجها الأول من مدير اعمالها الايطالى منجينى الذى شهدت معه حياة اتسمت بالاستقرار، وكانت تصر على اقتران اسميهما فى اعلانات اعمالها الفنية، الا أن ذلك الانسجام الثنائى انتهى حين دعيت مع زوجها إلى رحلة بحرية من المليونير اليونانى ارسطو اوناسيس الذى قال لها حين التقاها للمرة الأولى على يخته «مدام ماريا كالاس، انت فعلًا الاغريقية التى كنت اتخيلها وأتمنى ان التقيها مرة أخرى». وكان أوناسيس يشير بذلك إلى اصولها اليونانية؛وحياتهما الصاخبة معا إلى تخلصه من ماريا كالاس وفقدانها طفلها منه الذى ولد فى عملية قيصرية وهو فى الشهر الثامن وعاش ساعتين، وظلت حتى وفاتها تقطع المسافة من باريس إلى ميلانو لمجرد زيارة قبره الصغير. واستخدم زيفيراللى بالفيلم تسجيلات صوتية قديمة تعود إلى اكثر من عشرين عامًا مضت. أما فيلمه (البطل) فيعد الفيلم الأكثر حزنًا فى تاريخ السينما العالمية، لقدرته على التغلغل فى أعماق النفس البشرية، وتحريك مشاعره الدفينة. من خلال بيلى فلاين «جون فوت»، ملاكم سابق يعمل مروّض خيول، ويقيم فى ميدان للسباق مع ولده الصغير، دى. جى. «ريك شرودر». فجأة يلتقى، فى أحد الأيام، بزوجته التى كانت قد هجرته قبل سبع سنوات، ليقرر العودة إلى حلبة الملاكمة، من أجل ضمان مستقبل أفضل لولده. وفى آخر مباراة ملاكمة له، يسقط فلاين، مهزومًا، من قبل خصمه، وقبل أن يموت،ينادى على ولده الصغير، وهو فى حالة احتضار. وهنا، يبدأ المشهد السينمائى الراقى، وهو فيلم البطل الأكثر حزنًا فى التاريخ، وبالكلمات التالية، المثيرة، جدًا للحزن والشفقة: «أيّها البطل، استيقظ! لا تنم الآن. عليك الذهاب إلى المنزل!.». حيث تحولت تلك اللقطة إلى موضع دراسة فى المختبرات النفسية فى جميع أنحاء العالم، لتحديد ما إذا كان الإنسان الذى يعانى من الاكتئاب، أكثر عرضة للبكاء من الإنسان السليم.. هذا المشهد لم تستغرق مدته أكثر من دقيقتين و51 ثانية. أخيرًا وداعا زيفيريلى القادر على لمس ثنايا القلوب.