الملاحظ الآن أن استراتيجيات الدول الكبرى، والدول الصاعدة، أصبحت تعزف نغمة القوة الاقتصادية على حد التعبير الذي استخدمه كثير من علماء الاستراتيجية وصارت هذه الدول تحدد أساس مصالحها بناء على القوة الاقتصادية، وربط أمنها القومي بالأمن الاقتصادي، وهي نتيجة مستخلصة من رصد وتشخيص تجارب صعود دول صغيرة، وتحولت في أقل من عشر سنوات إلى دول صاحبة اقتصاديات قوية ومتقدمة . واليوم صار الأمن القومي الاقتصادي، هو البداية لنجاح أي نظام حكم، وبالنسبة إلى حالة مصر فلديها موارد مادية وبشرية تسمح لها بإقامة قلاع إنتاجية، مقارنة بدول حققت التقدم في سنوات قليلة، وكانت تعد فقيرة بالقياس إلى مصر، لكنها امتلكت الرؤية لما تريد للدولة أن تكون، وفق استراتيجية متكاملة الأبعاد، تحتوي مواطن القوة ومواقع الضعف، بهدف تعويضها، وتجهيز آليات تنفيذ، تقوم على كفاءة الإدارة، وتشهد على ذلك تجارب عديدة رأيناها في البرازيل، وسنغافورة والهند وإندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا، وفي المقابل رأينا الدول الفاشلة failed states التي خضعت لحكم ديكتاتوري، استحوذ على الدولة بسلطاتها وثرواتها، ونشر فيها الفساد، وألقى بالفأس وراء أسوار الخوف والانكماش المعنوي . إن علماء السياسة يقدرون اليوم وجود علاقة مباشرة وقوية، بين التقدم الاقتصادي والفكر السياسي للدولة، والذي ينجح فيه، من يستوعب طبيعة العصر، وتغير الزمن . وتتفق كثير من الدراسات على أن من يريد فهم سر التقدم السريع للدول الصاعدة اقتصاديا في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وكذلك الوضع الحالي للاقتصاد العالمي، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية في الغرب، فإن عليه أن يرجع بذاكرته إلى يوم سقوط حائط برلين، وانهيار الأنظمة الشمولية العام ،1991 وهو ما كان نقطة تحول فاصلة في تاريخ الدول والشعوب، يومها عجزت دول عن فهم معنى هذه التحولات، فأدرجت بأوضاعها ضمن تصنيف الدول الفاشلة، التي تشبثت بالحكم الديكتاتوري، والسيطرة على كل سلطات الدولة، وتقريب أصحاب الولاء، وتهميش أصحاب المعرفة والقدرة، والتخصص، وأحكمت قبضتها على شعوبها ببطش الدولة البوليسية، بينما استوعبت دول أخرى أبعاد هذا التغيير في العالم، واحتمالاته المستقبلية، وفهمت أن التغيير الذي يبدأ بالخروج من وراء قضبان هذا النوع من الحكم، هو مفتاح الانتقال إلى التقدم والازدهار، والمكانة والنفوذ، فأطلقت سراح جماهيرها . حتى الدول الكبرى التي كان الصعود الآسيوي على وجه الخصوص، مؤثراً في استمرار عصر تربع الغرب على قمة مراكز التأثير الدولي، وما أصابها من أزمات اقتصادية متلاحقة، بدأت في السنوات القليلة الماضية، تولي اهتمامها للأمن القومي الاقتصادي، وهو ما ظهر أخيراً على سبيل المثال في إعلان ما سمي “استراتيجية أوباما لتجديد أمريكا، بالبدء ببناء الداخل”، وهي الاستراتيجية التي وصفت بأنها ستكون الأساس لقوة أمريكا وأمنها القومي، وهو ما أفاضت في شرحه، ندوة بكلية الدفاع الوطني الأمريكية، بعنوان “الأمن الاقتصادي . . البعد الغائب في الأمن القومي” . وفسرت مضمون استراتيجية الأمن القومي الجديدة، بأنها تجديد لأسس قوة أمريكا . يأتي هذا التركيز على الأمن القومي الاقتصادي، في أعقاب تطور بدأت تظهر أفكاره في أوائل القرن الحادي والعشرين، يتفق فيه علماء السياسة في العالم، على أن مكونات قوة الدولة، يعاد ترتيبها، فبعد أن كانت القوة العسكرية تحتل قمة مكوناتها، صعدت إلى مستواها نفسه، القدرة الاقتصادية التنافسية . ويلاحظ كذلك أن استراتيجية “إسرائيل” لعشرين سنة مقبلة، والتي أقرها مجلس وزرائها رسمياً في يوليو ،2008 قد اعتمدت هذا الاتجاه، وصنفت القدرة الاقتصادية أنها قوة ردع، لا تقل تأثيراً عن القدرة العسكرية . ولوحظ أن هناك أسلوباً مشتركاً وعاماً، تبنته الدول التي نجحت في تخطي حاجز الفقر والتخلف، والصعود إلى مستويات الرخاء والتقدم والقوة والنفوذ، وهو البدء باللجوء إلى أهل الخبرة، والمعرفة، والرؤية الاستراتيجية، والتجرد في عملها من أي انحياز فكري أو حزبي، لوضع الخطوط العريضة للرؤية، والهدف الذي تريد الدولة أن تكونه، وتحديد المشكلات المطلوب حلها، من حيث النوعية، وحصر الإمكانات المعطلة والمهدرة، أو التي لا تستغل استغلالاً اقتصادياً، وتحديد مجالات التعاون مع دول أخرى، في مشروعات تعود عليها بالمنفعة المتبادلة . وبعد ذلك يتم اختيار مجموعات عمل متخصصة، تختص كل منها بدراسة الموضوع أو القضية التي يعهد بها إليها، وتقديم مقترحاتها وتوصياتها . وفي النهاية تتولى مجموعة من المفكرين والمختصين، تجميع كل هذه النتائج التي توصلت إليها هذه المجموعات، في إطار استراتيجية واحدة متكاملة، ووضعها موضع التنفيذ . لقد عرف العالم في فترة العشرين سنة الماضية، محاولات الخروج من عصر مضى، بكل أفكاره، ونظرياته، وسياساته، إلى عصر مختلف تماماً، فرض ضرورات وضع الكثير من هذه النظريات على الرف، وتجديد بعضها، وبالرغم من أن التغيير طال مفاهيم الأمن القومي للدولة، والأمن العالمي للمجتمع الدولي ككل، والتغير في محددات السياسة الخارجية، وفي أنماط التنمية الاقتصادية، وأشكال التحالفات، والعلاقات الإقليمية والدولية، فقد برز وسط كل هذا، مبدأ الأمن القومي الاقتصادي، باعتباره القوة المؤثرة مباشرة في كل هذه الأفكار والمفاهيم . نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية