تعالوا قليلاً قليلاً بعيداً عن حديث السياسة الغامض كالليل البهيم الذي تجمد الحديث فيه عن موضوعات معادة ومكررة، ولا أمل في حل أو شفاء لمريض استعصى عليه الدواء. تعالوا نذهب الى دمشق الفيحاء، ولنيمم وجهنا شطر المسجد الأموي الكبير وندعو الله مخلصين أن «تستيقظ الأمة العربية من سبات نومها العميق» أو «يحيى الله ويبعث من في القبور» وهي عبارة قالها المقصود بهذا الحديث والذين أطلقوا عليه «رئيس جمهورية الشعراء» وكأي جمهورية في الفن أو في الشعر أو في الأدب أو في السياسة فيما بعد «لا إرث ولا توريث» إنها مدة واحدة ليتمتع الجالس على عرش الجمهورية، يفني من أجل بقاء شعبه أو محبيه أو الداعين له صباح مساء بأن يعطي ويأخذ، يعطي الحب ويأخذ مقابله العطاء والعمل والإنتاج في أي ميدان كان. مقدمة كانت لازمة، لأصف رحلتي الثانية الى قبر الحبيب الى قلوبنا وعقولنا وكل ذرة من عواطفنا لنطفئ عند قبره لواعج الشوق، أليس هو القائل: «اشتقت إليك فعلمني ألا اشتاق.. علمني كيف تموت الدمعة في الأحداق».. وعدت إلى قبره كما المرة الأولى عند ربوة عالية تطل على معالم المدينة محوطة بالأشجار الجميلة والخمائل الزاهية، فيها الورد والفل والياسمين من كل جانب، وقبر الحبيب محوط بهذه المملكة ذات العطور، وكأنها صنعت من أجله يناجيها وتناجيه، وتبث في قبره وبين ترابه عطراً أبدياً خالداً.. «يحيى عظامه في ترابه الميمون» وكما قال شكسبير في «ليلته الثانية عشرة»: «حيث تأتي إليه طيور الليل السيارة تسامره وتحاكيه في قبره».. وكان «حديث الروح الى الروح» ما بين الأحياء والأموات، «وإن كان نزار الشاعر ليس ولن يكون من الأموات، لأنه باقٍ ما بقيت الطيور والزهر والليل والقمر».. وهو القائل: هذه العصافير أصحابنا ونحن الذين حرام أن يموت أمثالنا صدقت يا شاعر الحب والجمال والخلود.. وكان حديثي معه أن أحوالنا العربية، عن الضفة وغزة و.. إلخ، ورأيت ترابه يهمس بأقوال وأشعار جاد بها حين كان «بيننا حياً». نزار الذي: لم يترك بيتاً لم يدخله.. ولم يترك طفلاً لم يلعب معه.. ولم يترك حديقة لم يجلس تحت أشجارها.. ولم يترك عاشقاً إلا احتضنه.. وفجأة رأيت «صوت القبر» يعلو ويرتل في ليالينا، ما سبق أن قاله عن «العرب وأحوال العرب وغروب وجه القمر في بلادنا»: أنا يا صديقتي متعب لعروبتي.. فهل العروبة لعنة وعقاب.. أحاول منذ الطفولة رسم بلاد.. تسمى مجازاً بلاد العرب.. تسامحني إن كسرت زجاج القمر.. وهو القائل في ثورة غضبه صورة شعرية نادرة، وهو القائل عن نفسه: أنا الدمشقى لو شرحتم جسدى.. يسأل منه عناقيد وتفاح.. ولو فتحتم شراييني بمديتكم.. سمعتم في دمي أصوات من راحوا.. تعالوا معى إذن نستمع في خشوع وتراب القبر بيننا، عن (من علم نزار أن يحيا وأن يقول شعراً جميلاً لا مثيل له): من علمني.. أول درس في أحوال الوجد.. من علمني.. كيف أواصل عشقي.. منذ المهد.. وحتي اللحد.. من علمني أن حبيبى.. نوع من أعشاب البحر.. وفرع من عائلة الورد.. من سماني ملكاً في تاريخ العشق.. فقد أعطاني كل المجد.. من علمني.. كيف أسافر ضد الموج.. وضد الريح.. من علمني.. كيف تكون الكلمة سيفاً.. في وجه الشيطان.. ومن علمني.. كيف (أموت علي أوراقي).. حتي ينتصر الإنسان. حقاً كان شاعراً - ولا يزال صداه مهما كان القرب أو البعد - فهو كما قال شاعر آخر «قريب علي بعد، بعيد علي قرب».. هو شاعر.. البرق منزله.. والبحر سيرته الذاتية.. هو شاعر.. كلما خرج من فندق كلماته.. وجد سيارة البوليس بانتظاره.. هو شاعر.. ينزل من بطن أمه.. وفي يده.. عريضة احتجاج.. وعلبة كبريت.. وأخيراً: هو شاعر، يعلم أشجار الغابة.. أن تسير في مظاهرة.. من أجل الحرية.. هو شاعر.. كلما ظهر في أمسية شعرية.. أطلقوا عليه القنابل.. المسيلة للأحزان. هو شاعر تزوج الحرية زواجاً مدنياً.. وأنجب أولاداً.. شعرهم بلون السنابل.. وعيونهم بلون البحر.. هذه هي الطبيعة في عرسها الأبدي.. الشمس والليل والقمر.. ورائحة الزهر والياسمين والبنفسج.. تعطر قبر الحبيب الشاعر الجميل جداً.. وكان لزيارتي أن تهمس بيني - أنا - وبين نفسي.. وقد رأيت قمر السماء يستأذن هو - الآخر - بالرحيل.. وهمست في أذن عصافير المكان.. حراس قبره.. أن «إلى اللقاء».