وزير التعليم يبحث مع جوجل العالمية ويونيسف تعزيز دمج التكنولوجيا في المنظومة    وفد من مسئولي برامج الحماية الاجتماعية يتفقد المشروعات المنفذة بحياة كريمة في الدقهلية    حملة مكبرة لرفع الإشغالات بشارع 135 بحي غرب شبرا الخيمة - صور    في استجابه من محافظ القليوبية.. حملة مكبرة لرفع الإشغالات بشارع 135 بشبرا    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد الجمعة والسبت كل أسبوع بالمنصورة    تراجع جديد في أسعار الذهب اليوم الجمعة 30 مايو بالتعاملات المسائية    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين إلى 30 واستمرار القصف الإسرائيلي المكثف    سوريا تُرحب بقرار اليابان رفع العقوبات وتجميد الأصول عن 4 مصارف    الرمادي يوجه رسائل خاصة قبل مباراة الزمالك وفاركو ..ويكشف عن موقف المصابين    كونتي يوضح مستقبله مع نابولي    رفضت العودة لزوجها.. ضبط ربة منزل تخلصت من ابنتها في قنا    ضمن ألبومه الجديد.. عمرو دياب يعود للتلحين من جديد    4 مشاهدين فقط.. إيرادات فيلم "الصفا ثانوية بنات"    إعلان أسماء الفائزين بمسابقة «توفيق الحكيم للتأليف المسرحي» بالقومي للمسرح    المنطقة الشمالية العسكرية تستكمل تنفيذ حملة «بلدك معاك» لدعم الأسر الأولى بالرعاية    عالم بالأوقاف: كل لحظة في العشر الأوائل من ذي الحجة كنز لا يعوض    «من حقك تختار».. ملتقى تثقيفي عن التأمين الصحي الشامل بالأقصر    صحة المنيا: قافلة طبية مجانية بقرية البرشا بملوي تقدم خدمات لأكثر من 1147 حالة    أمجد الشوا: الاحتلال يستغل المساعدات لترسيخ النزوح وإذلال الغزيين    ألمانيا تربط تسلم أسلحة إسرائيل بتقييم الوضع الإنساني بغزة    ترامب: أنقذت الصين لكنها انتهكت اتفاقيتها معنا بشكل كامل    ماكرون: إذا تخلينا عن غزة وتركنا إسرائيل تفعل ما تشاء سنفقد مصداقيتنا    مواجهات حاسمة في جولة الختام بدوري المحترفين    شعبة مواد البناء: أسعار الأسمنت ارتفعت 100% رغم ضعف الطلب    سقوط المتهم بالنصب على المواطنين ب«الدجل والشعوذة»    الحدائق والشواطئ بالإسكندرية تتزين لاستقبال عيد الأضحى وموسم الصيف    مستشار رئيس الاتحاد الروسي: منتدى بطرسبرج الاقتصادي مساحة لطرح الحلول لمواجهة المتغيرات العالمية    فى ليلة ساحرة.. مروة ناجى تبدع وتستحضر روح أم كلثوم على خشبة مسرح أخر حفلاتها قبل 50 عام    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    مفتى السعودية: أداء الحج دون تصريح مخالفة شرعية جسيمة    «أوقاف الدقهلية» تفتتح مسجدين وتنظم مقارئ ولقاءات دعوية للنشء    الصحة: تقديم الخدمات الصحية الوقائية ل 50 ألفًا و598 حاجا من المسافرين عبر المطارات والموانئ المصرية    أسامة نبيه: أثق في قدرتنا على تحقيق أداء يليق باسم مصر في كأس العالم    الإفتاء تحذر: الأضحية المريضة والمَعِيْبَة لا تجزئ عن المضحي    4 وفيات و21 مصابا بحادث انقلاب أتوبيس بمركز السادات    حكم من شرب أو أكل ناسيا فى نهار عرفة؟.. دار الإفتاء تجيب    108 ساحة صلاة عيد الأضحى.. أوقاف الإسماعيلية تعلن عن الأماكن المخصصة للصلاة    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    تحرير 146 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار الغلق    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    كأس العالم للأندية.. ريال مدريد يعلن رسميا ضم أرنولد قادما من ليفربول    الرئيس اللبنانى يزور العراق الأحد المقبل    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    أسعار النفط تتجه لثاني خسارة أسبوعية قبيل قرار أوبك+    وزير الزراعة يستعرض جهود قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة خلال مايو الجاري    طقس مائل للحرارة اليوم الجمعة 30 مايو 2025 بشمال سيناء    شاهد عيان يكشف تفاصيل مصرع فتاة في كرداسة    رئيسة المجلس القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    وزير الإسكان: بدء إرسال رسائل نصية SMS للمتقدمين ضمن "سكن لكل المصريين 5 " بنتيجة ترتيب الأولويات    مصر على مر العصور.. مصر القديمة 1    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    "فوز إنتر ميامي وتعادل الإسماعيلي".. نتائج مباريات أمس الخميس 29 مايو    فرنسا تحظر التدخين في الأماكن المفتوحة المخصصة للأطفال بدءًا من يوليو    تقارير: أرسنال يقترب من تجديد عقد ساليبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقائع الساعات الأولى لاندلاع ثورة 1919
نشر في الوفد يوم 08 - 03 - 2019

كيف واجه الطلاب رصاص الاحتلال فى صدورهم ليكتب لثورتهم النجاح
جاء يوم 9 مارس يوم مئوية ثورة 1919 التي صنعها الشعب بوجدانه للتأكيد بالإصرار على إعلان كيانه، ويعلن للعالم صحوته أنه استطاعت أن تضع الحق في ميزانه.
يوم 9 مارس تاريخ الخلود وعنوان المجد الوليد المولود وهتاف تأكيد البلاد بالتضحية والصمود.
إن (الوفد) تنفرد بنشر أول وقائع الشرارة الأولى لانطلاق هذه الثورة الشعبية التي فتحت الأبواب لكي تنطلق إلى الأمة إلى دخول العصر بكل معطياته وهذه الوقائع يفضل بذكر وقائعها أبو القانون الدستوري في العالم العربي الدكتور عبد الحميد متولي الذي يعتبر خزانة أسرار الحركة الوطنية والفكرية والقانونية وينبوع العلم المتدفق فهو أحد أعلام الفكر والفقه والوطنية، وهذا الحديث تم إجراؤه معه بمناسبة صدور مؤلف حول (نظرات أنظمة الحكم في الدول النامية) وبموجب ظاهرة في مصر عام 1985م وتم إصدار طبعته الثانية عام 1992م وهو آخر مؤلفاته والمفكر الكبير اعتبر هذا المرجع هو تتويج لتاريخه حيث أعلن وقتها اعتزال الدخول لقاعا ت الدرس عند بلوغه سن التسعين، وقد أحدثت هذه الدراسة وقتها أصداء سياسية وفقهية على أعلى مستوى لدرجة أن الرئيس الأسبق حسني مبارك بعث برسالة. ففي نوفمبر 1985م وجه الرئيس حسني مبارك رسالة شخصية وموقعة باسمه دون صفة إلا عنوان الخطاب باسم (الرئيس) والفترة الأولى التي تولى المسئولية وحقق بعد عامين على الحكم خطوات رائعة على مسيرة الديموقراطية وبين الخطوات بعد الإفراج عن ضحايا 5 سبتمبر وانتخابات 1984م التي حقق فيها مجلس الشعب طفرة غير مسبوقة في التشكيل وامتثل لحكم الدستورية فيما يتعلق بالقوائم النسبية وفي هيكلها الثلاثين مقعداً للمرأة في إطار التمييز الإيجابي وغيرها، ففي هذا اليوم وجه الرئيس مبارك رسالته ليس لرئيس دولة أو سياسي، لكنه اتجه بخطابه إلى شيخ الفقهاء الدستوريين العالم معلم الأجيال الدكتور عبد الحميد متولي وهي أول رسالة يوجهها رئيس الجمهورية لمفكر له هذا المقام الرفيع ورغم خطورتها إلا أن الرئيس مبارك رغم اقتناعه بالكلمات التي سطرها في الخطاب، إلا أنه لم يضع هذا الملف على اجندة الاهتمامات إلا في عام 2006م أي بعد 21 عاماً وكانت تعديلات منقوصة.
لهذا الحديث الموثق لأخطر صفحات سطرتها الأمة في أمجد صفحاتها على طريق الديموقراطية.
ثورة 19.. القمة والقيمة
ثورة 19 دخلت القرن العشرين شامخة رافعة الهامات عالية.. رافعة الرايات والأعلام خفاقة فتحولت إلى واحدة من الثورة الخالدة بتاريخ الإنسانية.
ومن القمة لوقائعها كان هذا التقييم لمفرداتها الثانية جعلت منها علامات راسخة في وجدان الشعب المصري، ولهذا الحديث قصة فمنذ سنوات وأنا أحتفظ بكلمات هذه العلامة وواثق بهذه المفاجأة الوثائقية، لأن كل ما قاله من باب الذكريات أو المذكرات أو وقائع تخضع للهوى لكنها محققة وموثقة وصادقة.
صاحب الكلمات جزء من التاريخ الوطني فهو ليس نوعا من التراجم الشخصية لكنها معلومات مرجعية جامعة ترصد المشهد وتصور بدقة الباحث الشاب المتحمس أعظم أحداث جرت على أرض مصر في أخطر مراحل مسيرتها، لكي يستخلص من تلك الوقائع بما تسلح به من معلومات وشجاعة وصبر في أرقى درجاتها وقمة راحة الضمير ويقظة الوجدان ووفاء للأجيال وترسيخ للقيم الجالية لأبناء هذه الأمة، بل تجسد في وقائع الوفاء واثبت هذا العملاق بأسلوبه المنهجي المتجرد وبرؤية العالم يمكن أن تضع أمام أجيال صورة حقيقية لما يجري على أرضنا والا تصبح صفحات الوطن أسطورة غامضة أو دعاية عارضة.. يضع هذه الصفحات ظلال الحقيقة ممتدة وممدودة وتصيغ أمام طريق الوطن وتضيف إلى مناهجها وآلامها طاقات ومنطلقات غير محدودة.
هذه منهجية هذه الوقائع، لكن كيف نحقق لنا هذه المعادلة وتترجمها الصفحات بكل دقة وأمانة بعيداً عن أي تحريف لصادق الكلمات ودقة البيانات وتأكيداً للنزاهة في أوج رصدها ومعاني الدلالات وتعيد للوقائع صادق رونقها بدقة العبارات.
وعن العالم الفقيه.. فقد كنت من وقائع دراسات العلمية واتصال بالمجتمع العلمي في مختلف ميادينه وتفاعلي مع منهج تأصيل الوقائع الوطنية الكبرى وفاءً لهذه المسئولية مهنياً ومنهجياً تتجرد من أي قيود تنظيمية.
في مقدمة القضايا الوطنية التي أردت أن أخوض فيها هي ثورة 19 التي غيرت مجرى تاريخ مصر وإعادة تأهيل هذا المجتمع.
لجأت إلى أستاذي الكبير الدكتور محمد محمود السروجي أستاذ التاريخ الحديث الذي تميز بالأمانة العلمية وهو حالياً شيخ المؤرخين في مصر والعالم العربي، وطرحت سؤالي عن وقائع يذكرها حول اليوم الأول لاندلاع ثورة 19 دون أي مقدمات حيث انفجر بركان الغضب لثورة إنسانية ملهمة لتاريخ البشرية وكان رده عليك أن تتوجه إلى أستاذ الأساتذة الدكتور عبد الحميد متولي الأستاذ الدستوري بكلية الحقوق بالجامعات المصرية ومؤسس العلم الدستوري، ورغم أنني لست حقوقيا لكن ما سمعته عنه جعلني اعشق القانون برؤيته وصدقه وكانت الصدمة أن ظروف أبحاثه حالت دون ذلك الوقت، لجأت إلى أصدقاء قريبين ومن طلائع تلاميذه كان أولهم العزيز المناضل إبراهيم طلعت وهو بركان ثورة متحرك وإيمان وإخلاص ووطنية في أرقى معانيها، وهو عضو مجلس النواب عن حزب الوفد عام 1951 لكنه كان من الجناح ضد اتجاه المحافظين وللعلم هذه القيمة الثورية له موقف تاريخ فور اندلاع ثورة 23 يوليو وهو صديق الرئيس جمال عبد الناصر بل ومحاميه الشخصي، وفوجئ الرأي العام بصدور أمر اعتقال ضد الأستاذ إبراهيم طلعت وعلم البكباشي جمال عبد الناصر بالواقعة حتى أصدر أمره بالإفراج عنه، بل مع الاعتذار له وهذه أول وآخر مرة يعتذر فيها جمال عبد الناصر لشخص أو لدولة.. وهذه قصة رواها لي رحمه الله وعندما سألته عن ذكريات اندلاع ثورة 19 حيث قلت إنك عايشت قيام ثورة 1923 فما هي معلوماتك من اندلاع ثورة 19 وفوجئت بأن يرشح لي الأستاذ الكبير مصطفى مرعي أو إبراهيم فرج باشا من الذي خاضوا الساحة السياسية، لكن قال بعد تفكير عميق اذهب إلى أستاذنا الدكتور عبد الحميد متولي فإنه أمين ومنهجي وليس حزبياً واستمع إلى رؤيته إذا كان قد عرف الأحداث لنزاهتها.. لجأت لنائب كفر الشيخ بمجلس الشعب وقد كانت تربطني مودة صادقة وهو جزء من تاريخ الوفد، وكانت تربطه صداقة عميقة مع الأستاذ عز العرب عبد الناصر ثاني أشقاء الرئيس جمال عبد الناصر. فهو أكبر أشقائه لكنه حرص أن يكون بعيداً عن أي محاور ودهاليز ويحب خطواته بالقلم والمسطرة وهو رحمه الله قيمة إنسانية محترمة وتولى إدارة جريدة الجمهورية بالإسكندرية عن النواحي الإدارية بعيداً عن العمل الصحفي، لكن كانت تربطه صلة وثيقة مع استاذنا الكبير موسى صبري وحتى في أوج الأزمة التي تعرض لها موسى صبري ونقله من رئاسة تحرير الأخبار لكي يكون كاتباً متفرغاً في جريدة الجمهورية في عهد رئيس المؤسسة الكاتب الكبير فتحي غانم والأستاذ حافظ شيحا روى لي رحلة عملي في الأسرار بالاتصالات بين ثورة 23 يوليو وقيادة الوفد وفي مقدمتها أن هناك مشادات بين عبد الناصر والوفد حول إمكانية تأسيس حزب معارضة وذلك عام 1968م ويتزعمه فؤاد سراح الدين باشا، لكن الظروف أرجأت الفكرة، وسألته عن يوم 9 مارس كانت الإجابة اذهب للعالم الكبير عبد الحميد متولي، وبعد ذلك طلبت من الصديق أحمد درويش عضو مجلس الشعب وطلبت منه موعدا مع مصطفى بك مرعي الذي نصحني أن أتصل أيضاً بالدكتور عبد الحميد متولي لمقدرته على سرد الوقائع.. نفس النصيحة قالها لي الزعيم محمد عيد نائب الإسكندرية حيث إنه واثق من قدراته.
وأمام هذا الطوفان كان لا بد أن نجلس أمام هذا الأستاذ والمعلم ونخاطبه وهو على مقعد الأستاذية، لكي يقول لنا كلمة فإنها القول الفصل أمام حقائق التاريخ.
وبهذه المناسبة كان موعدي مع المفكر الكبير لأتحدث معه عن رؤيته لمستقبل التعديلات الدستورية كما يتصورها، وشاركني في هذا اللقاء أحد أعلام الفقه والقانون في العصر الحديث الوزير الدكتور محمد زكي أبو عامر أستاذ القانون الجنائي وقتها وعميد كلية الحقوق بعدها وحضر الحوار العالم الكبير أحد رموز العمل الوطني الجاد الدكتور كمال قنديل رئيس نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية، وكان وقتها قد ترك منصب سكرتير عام النادي حيث عمل في المجلس الذي رأسه العالم المفكر الكبير عاطف غيث عميد كلية الآداب الأسطوري وشارك الدكتور كمال قنديل الذي تولى منصب عمادة كلية العلوم لعدة دورات وعضوية مجلس الشورى، ودار الحديث والوقائع في اللقاء الذي اختاره الدكتور عبد الحميد متولي أن يتحدث عن ثورة 1919م ووقائعها.
وهذا نص الحوار التاريخي الذي لم تنشر وقائعه من قبل وكلمات الدكتور صاحب هذه المكانة الرفيعة ترفع قيمة كلماته إلى درجة الوثيقة، لأن الوقائع لا تبحث إلا عن الحقيقة.
قال الدكتور عبد الحميد متولي: أريد أن أعرض فحسب لبعض ما شهدت من الأحداث ولبعض ما رأيت من وجوه النشاط الأدبي في عهد تلك الثورة مما لا يزال مطبوعاً على صفحات ذاكرتي ولا يجده القارئ في صفحات كتب الأدب والتاريخ، ولعل سبب ذلك أن احداً من مؤرخي الأدب أو من رجال التاريخ المعروفين لم يكن فيما أعرف من طلبة مدرسة الحقوق بالقاهرة حين قامت ثورة 1919م والكثيرون لا يعلمون أن الشرارة الأولى خرجت من بركان تلك الثورة إنما تطايرت من ضفاف النيل حيث كانت تقع مدرسة الحقوق.
يوم 9 مارس انطلقت الشرارة من مدرسة الحقوق
كان ذلك صباح يوم 9 مارس أي في اليوم التالي لاعتقال السلطة العسكرية البريطانية في مصر لسعد باشا زغلول رئيس الوفد المصري مع بعض من صحبه، وكانت مدرسة الحقوق هي البادئة بحركة الإضراب التي كانت أول حلقة من حلقات سلسلة تلك الثورة وكنت آنذاك أحد طلبة السنة الأولى بها ولا تزال حتى اليوم تتراءى أمام مرآة مخيلتي وذاكرتي صور أحداث ذلك اليوم، فلا أزال أذكر تماماً كيف اتجه طلبة الحقوق بعد إضرابهم في ذلك اليوم إلى «المهندسخانة» المعروفة اليوم بكلية الهندسة وبعد أن تم لطلبة الحقوق تحقيق هدفهم من حمل طلبة الهندسة على الإضراب اتجه طلبة هذين المعهدين إلى مدرسة «الطب» كلية الطب جامعة القاهرة بقصر العيني، وأني لا أذكر كيف دخلنا إليها من الباب الرئيسي بشارع قصر العيني وكان إلى اليسار وعلى بعد بضع خطوات من ذلك الباب «فراندة» كبيرة تتصل بالأرض بفناء مدرسة الطب بنحو 12 درجة من درجات السلم، وقد وقف الدكتور كيتنج (الناظر الإنجليزي) على إحدى الدرجات بعيداً عن الأرض بنحو ثلاث درجات، وكان الفناء زاخراً بالطلبة المضربين الثائرين، وكان قد وقف بتلك الفراندة نحو 50 أو 60 من طلبة الطب، وكان كيتنج قد وقف على ذلك السلم مولياً ظهره إلى طلبة الطب ومولياً وجهه إلى الطلبة الثائرين، والذين كانوا يحرضون طلبة الطب على الانضمام إليهم والإضراب معهم، والذي أذكره تماماً أن طلبة الطب الذين كانوا بتلك الشرفة لم يجرؤوا على الانضمام إلى الطلبة الثائرين، كما أن هؤلاء لم يجرؤوا على صعود السلم وجذب الطلبة معهم، رغم أن طالباً من طلبة الحقوق ضرب الدكتور كيتنج بمحفظة الكتب ضربة جعلته ينزل درجة او درجتين من درجات السلم ثم عاد إلى مكانه الأول، ويبدو لي أن ذلك الفشل إنما كان يرجع إلى ما لاحظناه في الدور العلوي من وجود بعض من رجال الجيش الإنجليزي يطلون من النوافذ علينا.
لقد قرأت لصديقي الأستاذ الدكتور حسين فوزي كلمة نشرها في صحيفة الأهرام عدد (18/6/65) عن ثورة 1919م يذكر فيها أن طلبة الطب وقد كان أحدهم إذا ذاك أضربوا عن الدراسة في ذلك اليوم وقاموا بإحدى المظاهرات.
ولا أرى تعارضاً بين القوانين. فقد تكون حركة الإضراب قد كتب لها النجاح
بعد أن غادرنا مدرسة الطب دون أن يغادرنا الفشل وكثيراً ما يتولد النجاح من الفشل كما يتولد الخير من الشر، ثم إن هؤلاء الطلبة الذين كانوا بتلك الشرفة كان لا يزيد عددهم كما ذكرت عن الستين طالباً، أي أنهم كانوا فيما أعتقد عبارة عن مجرد فرقة واحدة من فرق مدرسة الطب (وإني أرجح أنها كانت فرقة السنة الأولى).
ويقول إن الذين كتبوا عن هذه الثورة قد فاتهم أن يبرزوا ثلاث نواحٍ مختلفة، بل ثلاث عجائب مختلفة تجعل من ثورة 19 أعجب ثورة عرفناها بل وعرفها التاريخ.
أخطر ذكريات للمؤسس الفقيه الدستورى عبد الحميد متولى عن وقائع اليوم الخالد
من تلك العجائب أن هذه الثورة قامت دون إعداد مسبق ودون قيادة أو زعامة في بداية نشأتها، وإلى هذه الحقيقة أو هذه العجيبة أشار البعض الذين كتبوا عن هذه الثورة ولكن الذي لم يشيروا إليه من أمرها بل من عجائبها أنها ثورة قامت ضد إرادة بعض من وصفوا بعد ذلك بقادة الثورة أو بزعمائها. فقد كانت ثورة فرضت الزعامة فرضاً على زعمائها، فإني لأذكر عن صبيحة 9 مارس أن توجه بعض طلبة الحقوق إلى «بيت الأمة» منزل سعد زغلول، حيث يجتمع عادة زعماء الوفد توجهوا يحملون إلى الزعماء ذلك النبأ العظيم ويسألونهم عما يفعلون، ولم يكن من اولئك الزعماء الذين صادف وجود بعضهم إذ ذاك هناك وكان على رأسهم الفقيد العظيم عبد العزيز باشا فهمي، إلا أنهم أوسعوا الطلبة تأنيباً حاثين إياهم على العودة إلى معاهدهم والتزام السكينة والهدوء وإلا أصاب البلاد شر كبير من حيث لا يصيب مستقبلهم إلا سوء المصير، وكأنما كان لسان حالهم يقول للطلبة «لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين» والواقع أن فريقاً من الطلبة قد رأى فعلاً في دنياه ذلك الجحيم، ولكن هذه هي سنة الله في الحركات الثورية.
ثم حين طغى تيار بل طوفان الإضراب على جميع الطوائف حتى طائفة موظفي الحكومة وعمالها بمن فيهم عمال السكك الحديد، وحين عمت الحركة الثورية مختلف أنحاء البلاد حتى قراها، وحين اضطرت السلطة العسكرية البريطانية إلى حرق قيود اعتقال الزعماء أمام نيران الحركة الثورية، فأطلقت سعد زغلول وصحبه من معتقلهم في مالطة، وسمحت لهم بالسفر إلى باريس لعرض قضية مصر أمام مؤتمر الصلح المنعقد في فرساي (إحدى ضواحي باريس) ذلك المؤتمر الذي كان يظن أنه بمثابة محكمة دولية عليا تستمع إلى مظالم الشعوب، وتنظر في تقرير مصيرها لتعلن تحرير الجدير منها بالحرية والاستقلال، وحين لمع في الأفق نجم هذه الحركة الثورية التي كان ينادي أبناؤها الطلبة بحياة الثورة وقادة الثورة وسعد زعيم الثورة، حينئذ عرف سعد أنه أصبح زعيم ثورة من حيث لم يكن يدور بخلده يوماً من قبل أنه سوف يصبح زعيم ثورة يوماً من بعد، فهل عرف التاريخ قائد ثورة يبدأ حركته الثورية بجمع «توكيلات» من أفراد الشعب له، ويجدر بي هنا أن أبادر فأقرر أن ليس في ذلك ما ينقص مثقال ذرة في ميزان التاريخ من قدر سعد كزعيم للأمة وكزعيم عظيم لثورة عظيمة.
من عجائب هذه الثورة ما كان من أمر حدوثها بصورة مفاجئة ويفسر هذه الصبغة الفجائية أنها قامت كما قدمت دون إعداد سابق ودون قيادة ثورية تقوم بإيقاد نيرانها أو بتنظيم سريانها، ولقد بلغ من أمر تلك الصبغة الفجائية ومن استهان رجال الأمن والنظام والسلطة العسكرية البريطانية بأمرها أن أول قذيفة من بركان تلك الثورة، خرجت كما قدمت من مدرسة الحقوق التي كانت تبعد بضع خطوات من مبنى مديرية (الجيزة) ثم سار الطلبة إلى «المهندسخانة» لتحريض طلبتها على الإضراب، وبعد أن تحقق لهم هدفهم توجهوا إلى مدرسة الطب ثم ظلوا في فنائها مدة لا تقل عن النصف ساعة يحرضون طلبتها على الانضمام إليهم والإضراب معهم، ثم غادر الطلبة الثائرون مدرسة الطب، وتم ذلك كله دون أن يجدوا جندياً واحداً من رجال الأمن أو من جنود السلطة العسكرية البريطانية يعترض طريقهم، لا ريب أن سلطات الأمن كانت تعتقد أن المسألة مسألة عبث أطفال أو أنها كانت على حد التعبير الشهير في ذلك الحين المأثور عن المستر برونيات المستشار الإنجليزي لوزارة الحقانية (الآن وزارة العدل) في قوله عن تلك الثورة «إنها شعلة تطفئها بصقة»، ولم يكن يدري أن تلك الشعلة قد شاء لها الزمان أن تمتد منها ألسنة النيران حتى أخرجت لسانه وأفقدته في البلاد مكانه، إذ ألقت به وبزملائه المستشارين البريطانيين بعد قليل من السنين خارج البلاد.
من تلك العجائب أنها كانت أول حركة ثورية قامت عقب نهاية الحرب العالمية الأولى من شعب أعزل من السلاح، إذ كانت السلطة العسكرية البريطانية إبان تلك الحرب قد استصدرت قانوناً بمنع إحراز السلاح، ثم إن تلك الثورة إنما قامت من ذلك الشعب الأعزل ضد أقوى دولة في ذلك الحين خرجت منتصرة من حرب عالمية، وكانت لا تزال جيوشها وجيوش مستعمراتها في البلاد لا سيما في القاهرة التي كانت مركز تلك الثورة العزلاء إلا من سلاح الحق.
لا يليق بي فيما أعتقد أن أختتم هذه الملاحظات العامة عن ثورة 19 دون أن أشير إلى ما أفدته من ملاحظاتي، حين كنت طالباً للحقوق أرقب أحداث تلك الثورة وخطوط سيرها وسير رجالها وشبابها وتصرفات الجماعات، وكيف كان للنزعات العاطفية والمؤثرات الوقتية أثر في عقلية الجماعات وفي الحركات الثورية أكثر مما كان لإعمال الفكر والرواية.
وإني لا أذكر حين اطلعت على مؤلفات العالم الاجتماعي الكبير الدكتور جوستاف لوبون أثناء دراستي للدكتوراه في باريس وما كتبه عن عقلية الجماعات لا سيما إبان الثورات وكيف تتغير شخصية الفرد في الجماعة، فإذا بالجبان يصبح شجاعاً مقداماً وإذ بالبخيل ينقلب كريماً وإذا بالرجل الرقيق الحريم يغدو على جانب كبير من القسوة، وإذ بالرجل العاقل الوقور ينقلب إلى رجل طائش، أذكر حين قرأت ذلك لهذا العالم الاجتماعي الكبير، لم أجد في ذلك لوناً من ألوان الغرابة، ولولا أنني قد عشت أحداث ثورة 19 لما وجدت يسيراً ما كان فهمه في الواقع عسيراً، فهنالك بعض أمور من العسير أن ندرك حقيقتها ومعانيها إلا إذا كنا نزاولها ونعانيها، ولا أذكر لذلك مثالاً قدمه لنا الأستاذ (ديشام) في أحد دروسه التي ألقاها علينا في مادة «تاريخ المذاهب الاقتصادية» بكلية الحقوق بباريس، وكان ذلك إبان الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الأولى، إذ ذكر لنا أنه حين كان يشرح الطلبة قبل الحرب العالمية الأولى كيف أن التضخم النقدي هو أمر يؤدي إلى انخفاض سعر العملة وارتفاع نفقات المعيشة وأسعار الحاجيات.
كان الطلبة كما يقول الأستاذ يجدون لوناً من الغرابة وكثيراً في العسر في فهم هذه الظاهرة الاقتصادية كما كان يجد الأستاذ كثيراً من العناء في شرحها لهم وإفهامهم إياها. فلما نشبت تلك الحرب وحدث ما حدث إبانها وفي أعقابها من تضخم في إصدار العملة الورقية مما أدى إلى انخفاض سعر الفرنك الفرنسي وارتفاع أثمان الحاجيات لم يكن الأستاذ بحاجة إلى بذل جهد ما في شرح هذه الظاهرة الاقتصادية، وكذلك كان شائناً إبان ثورة 19 فلقد فهمنا الكثير من الظواهر السياسية والعديد من المبادئ المتعلقة بنفسية الجماعات وعقليتها دون حاجة إلى قراءتها في كتاب أو شرحها من أستاذ.
وحسبي هنا أن أشير إلى أهم قرار اتخذه طلبة الحقوق وكان له أثر كبير على مستقبلهم. إذ أدى إلى ضياع سنة من سنى حياتهم ذلك القرار إنما اتخذ تحت تأثير بعض الخطب الثورية الحماسية لبعض الطلبة، التي كانت لا تعرف الحجج العقلية أو الأدلة المنطقية، حتى إذا عاد الطلبة إلى منازلهم وخلوا إلى أنفسهم وتساءلوا في جو هادئ عن الأسباب التي دعت إلى مخالفتهم للأمر العسكري الذي صدر عن الجنرال «اللنبي» بإنهاء الإضراب وإلا تقرر إلغاء الامتحان واعتبار الطلبة المضربين راسبين وكان عليهم إعادة السنة.
بعض أبيات الطالب إبراهيم حسني ميزار فقد كانت طريقته تخلص بها من شعر الرثاء إلى الشعر الوطني وكان مما قاله في ذلك:
وقائلين أبكى أو فارث قلت لهم.. لا الدمع يرجعه يوماً ولا الكلم
إذا نسيناه قالوا قد قضى فمضى.. وإن بكيناه قالوا الجرح يلتئم
نثرت دمعي أبكيه ولا عجب.. نحن الشباب قدرنا الشيب قدرهم
لا نجحد الناس يوماً قط فضلهم.. لا يجحد الفضل إلا من به صمم
ثم يقول:
جادوا علينا فلم نجحد صنيعهم.. وكم نجود فلم ينسب لنا كرم
وكان الطالب القللي شاعر مدرسة الحقوق إبان الحركة الوطنية عام 1919 ولا ريب أن من مواضع العجب أن أذكر للقراء أنه كان لشعره الثوري في نفوس الطلبة من الأثر ما لم يبلغه شعر غيره من الشعراء حتى أمير الشعراء أي حتى شعر شوقي، أن هذا القول وإن كان يحمل في ظاهره لوناً من ألوان الغرابة فهو لا ينطوي في باطنه على أدنى قدر من المبالغة أو تجاوز للحقيقة، والكثيرون لا يعرفون أن شوقي لم يكن في ذلك الحين في مصر بل كان في المنفي (إسبانيا) فكان بحكم السن ولبعده عن مشهد الأحداث التي كانت توقد في النفوس نيران الثورة لا يمكن أن ينطلق لسانه بمثل ذلك الشعر الثوري التي كانت تتطلبه شبيبة ثائرة انطلقت من نفوسها القذائف الأولى لبركان الثورة، ثم إن شوقي لم ينظم فيما أذكر في بداية ظهور الثورة شيئاً من الشعر الوطني ولقد كان أول ما سمعناه من شعره ذلك النشيد الوطني الذي نظمه بناء على إحدى الهيئات الوطنية التي عقدت (بعد بداية الثورة ببضعة شهور) مسابقة بين الشعراء ليقدم كل منهم نشيداً وطنياً ليكون نشيد الشباب في عصر الثورة، ولقد كان مطلع ذلك النشيد الذي قدمه شوقي:
بنى مصر مكانكمو تهيا.. فيها مهدوا للجد هيا
ولا أجدني أذكر من ذلك النشيد سوى هذا البيت الذي لا يستحق أن يذكر.. كما أذكر نصف بيت آخر هو قوله «خذوا شمس النهار لكم حلياً» والنشيد كله كما بدا لي في ذلك الحين لا يصلح إلا للغناء في حلبة الرقص، لا لينشد في ميدان الثورة أو الجهاد
وأذكر لشوقي قصيدته الرائعة التي نظمها وهو بالأندلس (إسبانيا) وتتسم بالحنين إلى الوطن ومطلعها:
اختلاف النهار والليل ينسى.. أذكرا لي الصبا وأيام أنسى
ومنها البيت الشهير:
وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي
ونذكر له قصيدته التي وضعها لدى افتتاح أول برلمان مصري عقد بعد وضع دستور 1923م والتي كان مطلعها:
أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا.. وفاز بالحق من لم يأله طلبا
ومنها:
دار النيابة قد صفت مقاعدها.. لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا
ونذكر له قصيدته التي يأخذ فيها على الأحزاب ما كانت فيه من خلاف ونزاع والتي جاء فيها قوله:
إلام الخلف بينكمو إلاما.. وهذي الضجة الكبرى على ما؟
وفيم يكيد بعضكمو البعض.. وتبدون العداوة والخصاما
وقد فاتني أن أذكر النشيد الوطني الذي كانت له الأسبقية في تلك المسابقة لم يكن نشيد شوقي إنما كان النشيد الذي وضعه الشاعر المعروف مصطفى الرافعي بالأبيات الآتية:
إلى العلا إلى العلا بني الوطن.. إن العلا كل فتاة وفتى
إلى العلا في كل جيل وزمن.. فلن يموت مجد مصر لا
لن يموت مجد مصر لا ولن
وأذكر أنني توجهت وجماعة من الطلبة إلى إحدى القاعات لسماع تلحين هذا النشيد من أحد الملحنين المعروفين في ذلك الحين (الشيخ حسن مملوك) فكان يلقي كل شطره طبقاً لتلحينه ونحن نردد وراءه بصوت عال ذلك النشيد شطرة شطرة.
إنما ذكرت ذلك كله لكي نقارن بين هذا الشعر الذي نجده رغم روعته لا يصلح كما ذكرت، أن يكون شعراً لثورة بل ولا جرد فوره.. ذكرت ذلك لكي نقدر حق قدر شعر طلبة ثورة 1919م.
ويواصل (خزانة التاريخ).. أنتقل الآن إلى تقديم بعض مما أذكره من شعر الزميل الطالب القللي.
كانت أول قصيدة ثورية سمعناها له تلك التي ألقاها في الذكرى الأولى ليوم عيد الجهاد الوطني في نوفمبر 1919م ولا تزال ترسم في مرآة مخيلتي صورته وهو يلقى قصيدته وقد وقف على بعد بضع خطوات من باب مدرسة الحقوق فوق عربة حنطور، وقد أمسك بيده العلم المصري، ووقف إلى جوار فوق العربة صديقه الحميم المرحوم محمود السيد عقل الذي أصبح فيما بعد محامياً فمستشاراً بمحكمة الاستئناف ولقي حتفه في حادث أليم، وقد التفت حول تلك العربة جموع الطلبة أذكر من تلك القصيدة بعض أبيات متفرقة منها قوله:
بالروح نفديك فأخفق أيها العلم.. لسوف تفزع من هزاتك الأمم
لسنا تزعزعنا عن حقنا نوب.. وإن تزعزع عن أركانه الهرم
ويقول في ختامها:
أأجنبي ويغدو في مسارحنا.. ونحن يا نيل نمشي خلفه خدم
الموت حتى نشيد المجد من دمنا.. والموت حتى تراعي حقنا الأمم
وأذكر له قصيدة ألقاها بمناسبة افتتاح «نادي الحقوق» وهو نادي طلبة مدرسة الحقوق وكان ذلك عام 1921م وقد اختير لرئاسة النادي أحمد باشا طلعت رئيس محكمة الاستئناف واختير لسكرتاريته الأستاذ مكرم عبيد وقد حضر الحفل بعض الأمراء وعلى رأسهم الأمير عمر طوسون إلى مثل هذا الحد بلغ شأن مدرسة الحقوق في عصر ثورة 1919 وقد أقيم هذا الحفل في صالة أحد المسارح الكبرى وكانت تلك القصيدة مطلعها:
كذا فلتضي أفق الكنانة أنجم.. كذا فلتقم للعدل فيها دعائم
وأذكر قوله في ختامها:
أيا وطني إن لم أقف حر منطقى.. عليك حياتي لا تكلم لي فم
ويا وطني إن لم تفديك مهجتي.. فلا هطلت يوماً على الغمائم
ويا وطني إن لم أعش فيم ناعماً.. فإن حياة السجن أهنا وأنعم
وأذكر له يوم تولي الوزارة عدلي يكم باشا عام 1921 وكان المعروف في بداية عهد هذه الوزارة بالحكم أنها نصيرة للحركة الوطنية متحالفة مع الوفد، وكان ذلك قبل قيام الخلاف المعروف بين عدلي يكن وسعد رئيس الوفد.
وفي صبيحة تولي عدلي يكن لرئاسة الوزارة توجه فريق من الطلبة وكنت أحدهم إلى منزل عدلي يكن لتحيته لدى مغادرته إياه اجتمعنا بالشارع على مقربة من باب المنزل وقد وقف القللي فوق كرسي لدى مدخل الباب ولدى خروج الرئيس السابق عدلي يكن أشار إليه القللي إشارة تحمل معنى طلب الوقوف فوقف رئيس الوزارة الجديدة وأنشد القللي الأبيات التالية:
مولاي إن الشعب يرجو طلعتك.. ويود في كل الأمور تحيتك
مولاى كن للوفد عوناً ناصراً.. أسس على حب القلوب أريكتك
مولاي مصر في يديك أمانة.. مولاي كن للشعب تلق الشعب لك
والقللي يجيد فن الإلقاء ولكني لم اره مطلقاً يلقي قصيدة إلا ممسكاً بإحدى يديه بورقة يقرأ منها شعره حتى هذه الأبيات الثلاثة، وأذكر له قصيدة أخرى نظمها في عهد تلك الوزارة بمناسبة زيارة عبد الفتاح باشا يحيى وزير الحقانية لمدرسة الحقوق وقد كانت في ذلك الحين تابعة لهذه الوزارة وفي اجتماع ضم الوزير وهيئة التدريس والطلبة بصالة الدور الأول ووقف القللي فوق كرسي وألقي قصيدة أذكر منها قوله:
سمح الدهر بالصفاء وتابا.. بعد أن لج في العناد وعابا
يا معالي الوزير يا ملجأ العدل وحصناً بحالة الأحقابا
كم لنا فيك من رجاء كبير.. إن أبيتم فأين نلقى الجوابا
في لظي السجن فتية قرحها الهمم يلاقون في السجون العذابا
لو رأيتم ذويهم في أساهم.. لأفضتم مادهما وانتحابا
ارحموهم وأشفقوا لصباهم.. وكفاهم مذلة واكتئابا
حقق الله للبلاد مناها.. وحماكم لعينها أهدابا
وأذكر أن بعض طلبة الحقوق الذين كانت المحكمة العسكرية عام 1920م قد حكمت عليهم بالإعدام ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة لاتهامهم في قضية المؤامرة الشهيرة باسم عبد الرحمن فهمي وكانت التهمة الاشتراك في مؤامرة ضد الإنجليز أما هؤلاء الطلبة فكانوا محمد لطفي المسلمي وابراهيم عبد الهادي وعبد الحليم عابدين.
ولقد كان لطلبة الأزهر دور كبير في الثورة وكان منهم كثير من الشعراء المجيدين، على أني لا أكاد أذكر مما نظموه سوى بيتين أنشدهما أحد طلبة الأزهر في مظاهرة نظمها الطلبة بمناسبة سقوط وزارة توفيق باشا نسيم عام 1920م وكانت تعد في عين الشعب وزارة غير وطنية وكان مما ذكره ذلك الطالب مخاطباً نسيم باشا
قضيت على العدالة مذ قضيتا.. ووليت الأمور فيما عدلتا
لقد ظلموك إذ ولوك أمرا.. جليلاً ثم من هذا ظلماً.
وكان أولى تلك القصائد قصيدة أعددتها لإلقائها في اجتماع أعلن عن موعد انعقاده بمركز السنطة ليجتمع فيه أهالي بعض بلاد قليلة تأخرت في الاستجابة إلى نداء التبرع للوفد الذي كان إذ ذاك بباريس برئاسة سعد لعرض القضية المصرية على أحد المؤتمرات الدولية، وكان الهدف من الاجتماع هو حث المجتمعين على التبرع، ولكن حدث بعد أن أتممت نظم القصيدة أن علمت بأن إدارة الأمن قررت منع هذا الاجتماع وقد قلت من هذه القصيدة:
بني النيل هيهات النهوض إلى المجد.. إذ مارضيتم بالمهانة والذل
أخاف وربي أن تلين قناتكم.. لغمز عدو دائم المكر والختل
وألا تهبوا بعد طول رقادكم.. لنصرة وفد قام في طلب العدل
أرى النيل قد عم البلاد عطاؤه.. فما لكمو لم تعدلوا النيل في البذل
فإن لم تشاءوا أن تعينوا بلادكم.. فكونوا نساء لا تعيب من الكحل
وقد كان يحتفل في عهد ثورة 19 بيوم 18 ديسمبر وهو يوم إعلان الحماية البريطانية على مصر، باعتباره يوما من أيام الحداد والشؤم على البلاد فكان الخطباء والشعراء والكتاب يتبارون في هذا اليوم لإنهاض الهمم وشحذ العزائم على العمل للتخلص من تلك الحماية البريطانية التي لم تكن سوى صورة مقنعة من صور الاستعمار.
في ديسمبر 1920م بمناسبة تلك الذكرى نظمت القصيدة التالية:
لك الحياة لك الآمال يا وطني.. موت النفوس لتحيا قل من ثمن
ما أعذب المر في مجد نحاوله.. ما أسهل الصعب في العلياء يا وطني
هيهات ننسى وإن طال الزمان بنا.. يوماً به حكموا للشعب بالكفن
فإن بكيتم فلا تبكوا سوى وطناً.. ألقى العداة به في آلم المحن
إذا عكفنا على الأوطان نعبدها.. قالوا هم اليوم قد عكفوا على وثن
فقبح الله قوماً ينكرون ضحى.. شمساً وكل خون غير مؤتمن
سنشتري المجد للأوطان بالثمن.. الغالي ولو أننا نغدو من الثمن
إن كان لا بد من موت سيصرعني.. فأشرف الموت في حفظي حمي الوطن
ويقول إن إشارة إلى يوم إعلان الحماية البريطانية على مصر وقد كان في بداية الحرب العالمية الأولى وبعد دخول تركيا في الحرب ضد إنجلترا وانضمام الخديو عباس إلى تركيا وقد كان إذ ذاك في الأستانة، وإن ما كانت تكتبه الصحف البريطانية إذ ذاك من تشويه الحركة الوطنية واتهامها بأنها حركة تعصب ضد الأجانب وليست حركة استقلالية.
ولدى عودة سعد من فرنسا في إبريل 1921م لأول مرة بعد نفيه في مالطة في مارس 1919م ثم إطلاق سراحه وسفره إلى باريس لعرض قضية مصر على أحد المؤتمرات الدولية هناك، استقبله الشعب في مصر استقبالاً حماسياً ذكرت الصحف المصرية والأجنبية عنه أن ذلك الاستقبال كان دون مثال في التاريخ المصري، وقد أقيم سرادق كبير في الأرض الفضاء التي كانت مجاورة لبيت الأمة وقد اتخذ سعد له مقعداً في ذلك السرادق لاستقبال الأفراد والوفود من مختلف الهيئات من مختلف القطر المصري، وقد جاءت لتهنئته ومبايعته بالزعامة واستمر ذلك الحال بضعة أيام وكانت تمر الجماعات والأفراد أمام سعد في غير نظام أو ترتيب معين، وكان يتقدم عادة أحد أفراد تلك الهيئات أو الجماعات ويلقي أمام سعد كلمة ثم يقوم سعد لمصافحته، وكان أحياناً يرد على الخطيب بكلمة قصيرة، ولقد ذهبت إلى ذلك السرادق بعد أن أعددت قصيدة لإلقائها أمام سعد وقبل إلقائها وقفت بعيداً عن سعد ببضع خطوات وأخذت أتأمل وجهة، فبدا سعد أمامي تلك اللحظة شيخاً خائر القوى تبدو عليه آثار التعب فلم تكن شخصية سعد في ذلك اليوم من شأنها أن تشجعني على إلقاء القصيدة فطويتها في جيبي وطويت خيبة الأمل في قلبي وألقيت القصيدة جانباً دون أن ألقيها على سعد وعلى الحاضرين، ولا يفوتني هنا أن أقرر أني رأيت سعداً بعد ذلك مرات عدة سواء فوق منبر أو منصة أو في شرفة بيته يخطب خطباً قصيرة مرتجلة في الجماهير، فكنت أرى فيه تلك الشخصية القوية المهيبة المعروفة عنه ولكن القصيدة كانت قد فاتت مناسبتها وإن لم يفتني أن أنشرها في كتابي، أما وقد انتهيت من هذه الكلمة التمهيدية فإني أثبت هناك تلك القصيدة فيما يلي:
حامي الأوطان ما كنت البطل.. إنما جئت لنا بعد الرسل
أرسل الله رسولا للهدى.. ثم سعداً للبلاد تستقل
ما لقينا قبل سعد من فتى.. حملته مصر حملاً فاحتمل
همه قد أسمعت صم الورى.. وثبات بدد الخطب الجلل
نفس حر، عزم أسد فيكمو.. كل من جد بهاتين وصل
سعد سر بالشعب وأنشد مجده.. بعد ذل الأسر فالدنيا دول
قد وقفنا المال والروح على.. ما أشرتم من تقودوا لن يضل
وحذرنا الخلف فيما بيننا.. أن موت الشعب في خلف يحل
أجلى لا بد يفنى حبذا.. في سبيل العدل أن يفنى الأجل
وكنت قد أشرت إلى أني حين استمعت إلى قصيدة رثاء الطالب إبراهيم حسني ميزار أعجبت بطريقته في الانتقال من شعر الرثاء إلى الشعر الوطني، فلما كانت أول حفلة تأبين أقيمت بعد ذلك بمدرسة الحقوق بمناسبة وفاة أحد الطلبة عام 1921م رأيت أن آخذ بتلك الطريقة وقد لجأت في ذلك إلى التورية لا سيما أن القصيدة كانت معدة للإلقاء في مدرسة الحقوق ذاتها وبين الحاضرين، كما جرت العادة في حفلات التأبين التي يقيمها الطلبة لأحد زملائهم المتوفين، الناظر الإنجليزي وكذلك بعض الأساتذة الإنجليز وكان منهم من يقوم لإلقاء كلمة مشاركة الطلبة في شعورهم.
وسأقتصر هنا على أن أذكر من تلك القصيدة مطلعها ثم الأبيات التي تخلصت فيها من شعر الرثاء إلى الشعر السياسي ثم الأبيات التي عدت فيها في ختام القصيدة إلى شعر الرثاء، كان مطلع القصيدة:
أصابك صرف الدهر وهو غدور.. وغصنك في عهد الشباب نضير
ومنها:
فدع عنك دمعاً في المأتم كاذباً.. وأنات حزن ملؤهن الزور
فليس بمجد للفتى في مماته.. سوى أن يرى والحمد فيه كثير
ووالله ما أدري وفي النفس لوعة.. وفي العين دمع لو يفيض عزيز
متى يبسم الدهر الذي ساء معشراً.. لهم علم في السابقين شهير
أمن مبلغ عنا الأصور بأننا.. على نهجهم نحو العلا سنسير
وأنا شباب النيل للنيل معقل.. منيع يرد الطرف وهو حسير
فيا لك من موت رأى الناس طعمه.. وأن له من في الوجود أسير
إذا سركم دهر وسدتم على الورى.. فلا تخدعوا فالدائرات تدور
إذا عمرت مصر بمن لا نوده.. فقد عمرت ممن نود قبور
وما أنا موفي في الرثاء بحقه.. ولو أن مثلى في القصيد جرير
ويقول العالم الكبير إن الدور الذي لعبته رياح المصادفات في توجيه سفينة حياتي ولا ريب أنه قد لوحظ فيما حدثت عنه أمر نشاطي الأدبي ما حدث من تلك الظروف بل تلك المصادفات التي حالت دون ظهوري على المسرح السياسي ولولا ذلك لاتجهت حياتي وجهة غير التي اتجهتها فقد كنت شاعراً وكاتباً وخطيباً، ولقد كان قادة الحركة الوطنية وعلى رأسهم سعد يقربون منهم من كان تتوفر فيه هذه الصفات من طلبة المدارس العليا وخاصة طلبة الحقوق ممن يظهرون على المسرح السياسي الوطني ويكاد يكون جميع الزملاء ممن تتوفر فيهم هذه الصفات أو بعضها وقدر لهم الظهور على السرح السياسي قد جنبهم تيار الحركة الوطنية الثورية وارتبط مستقبلهم في الحياة بمستقبل أحد الأحزاب السياسية ووصل الكثيرون منهم لمقاعد وزارية، ولم تكن هنالك كارثة يمكن أن حمل بل كأن تقذف بي الأقدار في تيار الحياة السياسية العملية، وأن تبعد بيني وبين جو الحياة العلمية التي لا أصلح فيما تبينت وفيما سأبين لحياة سواها ولا أستسيغ طعم الحياة في جو عداها.
ولقد كان اختياري للالتحاق بكلية الحقوق دون الطب ثم اتجاهي لدراسة الدكتوراه بفرنسا كان كل منهما وليد إحدى المصادقات ولدى الفرنسيين مثل طريق يعبر إيمانهم بذلك الدور الذي تلعبه المصادفات في توجيه مجرى أحداث التاريخ ذلك قولهم «إنه لو كان لكليوباترا أنف كبير لتغير وجه التاريخ» وهو يعنون بذلك أنها لو كانت ذات أنف كبير لذهب ذلك بجمالها ولما قامت الحروب المعروفة في التاريخ بين عشيقها القائد الروماني أنطونيو وبين القائد أوكتافيوس الذي انتصر في تلك الحرب التي غيرت وجه التاريخ.
ويروي أن هناك كلمة أعددتها لإلقائها في حفلة كان طلبة الحقوق قد أعلنوا عن تاريخ إقامتها في 1921م لتكريم الأستاذ مكرم عبيد ولكن حدث قبل موعد الحفل أن صدر أمر من السلطة العسكرية البريطانية باعتقاله مع سعد زغلول وبعض من صحبه ونفيهم في جزيرة سيشيل بالمحيط الهندي.
هذه هي حقيقة الثورة واندلاع شرارتها وما زال قطب الفكر الدستوري حتى بعد رحيله هو المرجعية التي توضع هذا العلم على طريق الانطلاق وشهادته ليست مجرد سرد أو ذكريات، لكنها تضع لهذا الوطن علامات وتضىء أمامه طريق الأمجاد والانطلاقات ويصنع أروع خطوات المجد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.