«نسيم» يرى أن الدستور منحة من الملك وليس حقاً من حقوق الأمة «الرافعى» يحمل نسيم ويحيى مسئولية اللعب فى مشروع الدستور الأمة مصدر السلطات مطلب الوفد ولم يحد عنه زيادة الاحتجاجات واغتيال البريطانيين للإسراع فى إطلاق سراح سعد ملخص الحلقة الماضية تناولت الحلقة الماضية لجنة دستور عام 1923 وتشكيلها ونتائجها، وإصرار الوفد على ضرورة جلاء القوات البريطانية من مصر، ورفض بريطانيا مطالب الوفد ونفى الزعيم خالد الذكر سعد زغلول ورفاقه الى سيشل فى ديسمبر 1921، كما تناولت الحلقة مطلب سعد بانتخاب جمعية وطنية تأسيسية تمثل الأمة فى وضع الدستور. مازلنا نتحدث عن الإرهاصات التى سبقت دستور 1923، والتى تمثلت فى تجدد حوادث اغتيال البريطانيين فى بداية وزارة نسيم وعلاقته بالدستور وإقرار الحكومة تشويها، مما شجع بريطانيا على إدخال تغييرات خاصة بالسودان تنقص مبدأ وحدة وادى النيل، وازدادت حوادث الاعتداء على البريطانيين بعد استقالة «نسيم» وسلكت وزارة يحيى باشا إبراهيم مسلك وزارة نسيم فى تشويه مواد الدستور، فازدادت الاحتجاجات ضد هذا التشويه لمشروع الدستور، ومن خلال رؤية المستشار سعيد الجمل وما طرحه الكاتب الكبير عبدالرحمن فهمى فى كتابيه، فى أعقاب الثورة المصرية وثورة 1919 تدور حلقة اليوم. تجددت حوادث اغتيال البريطانيين فى بداية وزارة نسيم، وذلك اعتقاداً من الشعب أن نسيم يبطئ فى العمل على اطلاق سراح سعد زغلول وصحبه بفك اعتقالهم. أما عن علاقة نسيم بالدستور فإنه ينسب اليه أن أهم عمل قام به هو شروعه فى نسخ الدستور، فأدخل عليه من التعديلات ما أفقده روحه الحقيقية منطلقاً من فكرة أساسية هى أن الدستور منحة من الملك وليس حقاً من حقوق الأمة، لذلك فقد أدخل على مشروع الدستور التعديلات الآتية: 1 حذف النص القائل بأن الأمة مصدر السلطات. 2 جعل إعطاء الرتب والنياشين من حق الملك وحده من غير مشاركة الوزارة. 3 حمل عدد الشيوخ المعينين مساوياً لعدد الشيوخ المنتخبين مع إعطاء الملك الحق فى حل المجلسين «مجلس النواب ومجلس الشيوخ». 4 جعل تعيين رئيس مجلس الشيوخ من حق الملك وحده من غير مشاركة الوزارة. 5 إعطاء الملك حق إعطاء مراسيم تكون لها قوة القانون ولو أثناء دور انعقاد البرلمان. 6 إخراج بعض معاهدات التجارة من رقابة البرلمان. 7تقرير الميزانية يكون بطريقة خاصة لا يتعداها مجلس النواب. 8- ألا يخل الدستور بما للملك بصفته ولى أمر البلاد فيما يتعلق بمعاهد التعليم الدينى الإسلامى والأوقاف التى فى يد وزارة الأوقاف. 9 زيادة الأغلبية الواجبة لتنقيح الدستور وضرورة تصديق الملك على هذا التعديل خلافاً لما تقضى به المادة «157» من الدستور. ولقد أقرت وزارة نسيم هذا المسخ الممثل فى المسائل السابقة وهو ما شجع الحكومة البريطانية على إدخال تغييرات خاصة بالسودان تنقض مبدأ وحدة وادى النيل، ذلك أن هذه الحكومة طلبت فى يناير 1923 حذف النصوص الخاصة بالسودان وهى المادة «29» من المشروع والتى كانت تنص على أن «الملك يلقب بملك مصر والسودان» والمادة «145» التى كانت تنص على أنه «تجرى أحكام هذا الدستور على المملكة المصرية جميعها عدا السودان فمع أنه كان جزءاً منها يقرر نظام الحكم فيه بقانون خاص»، وهددت اذا لم تعدل هذه النصوص فإنها تسترد كامل حريتها فى العمل وانها ستلجأ عند الضرورة الى أى تدبير تراه مناسباً، وقد قبلت وزارة نسيم طلب الحكومة البريطانية حذف لقب «ملك مصر والسودان» وجعله «ملك مصر» واستعيض عن المادة «29» بالمادة «160» التى تضمنت هذا التعديل كما قبلت الوزارة تعديل المادة «145» تعديلاً جوهرياً فأصبحت المادة «159» التى تنص على أنه «تجرى أحكام هذا الدستور على المملكة المصرية بدون أن يخل ذلك مطلقاً بما لمصر من الحقوق فى السودان»، واستقالت وزارة نسيم فى «5 فبراير 1923» بعد أن حققت للحكومة البريطانية طلباتها فيما يتعلق بتعديل المشروع بالنسبة للسودان. ويقول عبدالرحمن الرافعى إنه كان الأولى بحكومة نسيم أن تستقيل دون أن تستجيب للمطالب البريطانية فى حدود الدستور، أما إذعانها لهذه المطالب وتنفيذها قبل استقالتها، فمهزلة تدل على انحطاط الأخلاق السياسية والقومية فى كثير من النفوس، وهكذا رجعت البلاد الى الوراء فى عهد وزارة نسيم باشا وكان الأحكم أن يترك ثروت باشا فى الحكم، إذ إنه كان أقدر من نسيم على مواجهة الأزمات، وعلى إصدار الدستور سليماً من التشويه الرجعى أو العبث البريطانى، ولكن نزعة الحكم المطلق دبرت إسقاط وزارة ثروت وإقامة وزارة نسيم باشا وكانت مصالح البلاد ضحية لهذا التدبير. قدم نسيم باشا استقالته وحاول فى هذه الاستقالة أن يدافع عن موقفه بالنسبة لتعديل مواد الدستور السابق الإشارة اليها، ويقول بالنسبة لنصوص السودان انه لم يقبل فى البداية النصين اللذين طلبت دار المندوب السامى وضعهما والذى يقضى أحدهما بحذف لقب ملك مصر والسودان وقصره على ملك مصر، والآخر بتعديل المادة «145» تعديلاً جوهرياً إلا ان مذكرته لم تصادف قبولاً لدى الحكومة الإنجليزية، ويقول الأستاذ الرافعى فى ذلك إنه كان واجباً على نسيم باشا فى هذه الحالة ان يستقيل ويصر على الاستقالة حتى لا يتحمل مسئولية عمل يعترف هو نفسه فى كتاب استقالته أنه ماس بحقوق البلاد، ثم يقول نسيم باشا بعد ذلك إن المخابرات بينه وبين المندوب السامى قد استؤنفت وكانت نتيجتها وضع نصين جاء بهما أن اللقب يقرر وقت الفصل النهائى فى نظام السودان بواسطة المفاوضات وأن تطبيق الدستور لا يمس حقوق مصر فى السودان، وانه وافق على أن تكتب الوزارة الى الملك بقبول هذين النصين وقد كتب هذا الجواب فعلاً وأمضاه هو والوزراء جميعاً ورفع الى الملك كما صرح بذلك نسيم باشا فى حديث له بعد الاستقالة. ويستطرد الأستاذ الرافعى فيقول إن هذا الذى حدث يحمل نسيم مسئولية جسيمة لأن هذين النصين لا يختلفان فى جوهرهما عن النصين اللذين طلبتهما دار المندوب السامى فى بداية الأزمة ومآلهما واحد، اذ تم حذف لقب «ملك مصر والسودان» من الدستور وقصره على «ملك مصر» الى أن يتقرر اللقب النهائى فى المفاوضات، وحذف ايضاً النص على أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، ولم يشر إلا الى حقوق مصر فى السودان، وهى عبارة مبهمة لا مدلول لهاه إلا تجزئة لوحدة وادى النيل، لذلك لا يكون من الحق قول نسيم باشا فى كتابه الخاص بالاستقالة انه قدم استقالة الوزارة قبل أن يسجل فى الدستور ما و افق عليه الملك تحت تأثير الحوادث لأن نسيم باشا قبل النصين اللذين طلبتهما دار المندوب السامى، وأشار على الملك بقبولهما قبل ان يقدم استقالته فهو مأخوذ بهذا التسليم يشاركه فى ذلك الملك فؤاد لأنه يبدو من كتاب الاستقالة انه كان قابلاً للنصين البريطانيين منذ الساعة الأولى. أخذت حوادث الاعتداء على البريطانيين تتكرر بعد استقالة نسيم، وظل الرى العام قلقاً مضطرباً وشمل القلق مصير الدستور، وبقى مركز الوزارة شاغراً بعد استقالة نسيم مدة تزيد على الشهر، الى أن تألفت وزارة يحيى باشا ابراهيم فى 15 مارس 1923 ومما يستوقف النظر أن الوزارة الجديدة شملت خمسة من الوزراء عينوا بها وكانوا من المستقيلين ضمن وزارة نسيم، وقد بدأ يحيى باشا إبراهيم عمله بأن أدلى بحديث قال فيه إنه معتمد فى أداء مهمته على مساعدة المندوب السامى!! يقول الرافعى إن مثل هذا التصريح لم يصدر من أى رئيس وزراء وإن كانوا فى أغلبهم قد ساروا على منهاج يحيى ابراهيم وهذا يؤكد تراجع فكرة ولاية الحكم وانحطاط الاخلاق السياسية فى البلاد. وعند ولاية وزارة يحيى باشا ابراهيم الحكم سلكت مسلك وزارة نسيم فى تشويه مواد الدستور فارتفعت الاحتجاجات من كل جانب على هذا البتر والتشويه لمشروع الدستور، وكانت أقوى الاحتجاجات فى هذا الخصوص الخطاب المفتوح الذى وجهه عبدالعزيز فهمى بك «باشا» الى يحيى باشا ابراهيم والذى ناشده فيه أن يصدر الدستور كما وضعته اللجنة من غير بتر أو تشويه وأورد التعديلات الخطيرة التى أدخلتها وزارة نسيم باشا على مشروع اللجنة وقد أشرنا اليها فيما سبق، ونورد هنا بعض فقرات من خطاب عبدالعزيز فهمى الذى وجهه الى رئيس الوزراء لأهميته إذ افتتحه قائلاً له: «سيدى الرئيس.. رجل يجلك ويتفاءل خيرا بوزارتك يرى واجباً عليه أن يوجه اليك هذا الخطاب بلاغاً وتبصيراً.. لست أشك فى أن أول ما يهمك كما يهم البلاد من اقصاها الى اقصاها هو امر الدستور الذى رأست مصر بارقة فى عمرها مرة 1881، والذى تتشرف البلاد الآن بفضل كفاح بنيها وظروف الأحوال وحسن توجهات مليكها على أن تنعم به للمرة الثانية نعيماً مرجواً دوامه إن شاء الله، ويعلم سيدى الرئيس أن هذا الدستور قد وضعت مشروعه لجنة رأسها احد اعضاء وزارتكم «أحمد حشمت باشا رئيس اللجنة والذى كان يرأسها فى غيبة حسين رشدى باشا» وكان فيها وزيران آخران من زملائكم.. سل ثلاثتهم يخبرونك أن هذه اللجنة قد قامت بعملها مراعية فيه وجه الله والوطن، فأقرت كل شىء فى نصابه وأعطت كل ذى حق حقه فلم تغمط الأمة حقها فى أن لها السيادة وأنها مصدر كل سلطة ولم تغمط العائلة المباركة العلوية حقها الثابت فى أن الملك فيها الى ما شاء الله ولم تخرج فى أى أمر من الأمور التفصيلية عما تقتضيه قواعد القانون العام الحديث مما يتفق مع حال البلاد». ويستطرد فيقول: «لقد بلغ باللجنة التحرج فى عملها حدا أخذها به كثير من الكتاب فلم يحجم بعضهم عن وصفها تارة بأنها حكومية وأخرى بأنها رجعية ولكنها صبرت على هذا وهى مؤمنة بأنها أدت لوطنها ولمليكها ما كان عليها من الواجب.. والآن أخشى كثيراً كما يخشى كل من يغار على الحق فى بلده أن يصدر الدستور لا كما وضعته تلك اللجنة بل مشوهاً بالتعديلات التى يتناقل الناس أن وزارة نسيم باشا قد أدخلتها عليه.. لست أدرى يا سيدى مبلغ مطابقة الإشاعات للواقع ولكنى أرجوك أن تسمح لى فأقص عليك ما يتناقله الناس من أمر هذه التعديلات». وإنه وإن كنا قد أوردنا هذه التعديلات مجملة فى السابق الا انه من الضرورى اثبات ما قال به عبدالعزيز باشا فهمى عن هذه التعديلات لأهمية وجهة نظره فيها والتى أدلى بها فى خطابه لرئيس الوزراء يحيى ابراهيم فى 16 مارس1923 هذه التعديلات كالآتى: أولاً: عنيت لجنة الدستور عناية تامة بالبحث فى شأن السيادة على البلاد فرأت انها للأمة وان كل سلطة قد اصبحت الأمة مصدرها وأن سلطانها قد أضحى فوق كل سلطان فجعلت المبدأ أساساً للدستور دونته بالمادة «23» من مشروعها.. لكن الناس يتناقلون أن دولة نسيم باشا غفر الله له قد حذف هذه المادة من مشروع الدستور فقلبه بهذا الحذف رأساً على عقب وأصبح الدستور الذى أشار بإعطائه للبلاد مجرد منحة من العرش على اعتبار أن لا حق فى الأصل للأمة ولا سلطان للأمة ولا سيادة للأمة!! مذهب إن كان قد صح فى نظر دولة نسيم باشا، غفر الله ذنبه وستر عيبه، فعهدى بك يا سيدى الرئيس وقد كنت كبير القضاة أنك فى حق وطنك أكثر معدلة وأشد إنصافاً، وأنك لابد قائل معى ومع كل من لا يلهيه نعيم يومه عن شقاء غده إن السيادة هى للأمة والسلطان للأمة ومصدر كل ولاية فى البلاد هو الأمة. وإن كنت يا سيدى محتاجاً لشىء من البيان فى هذا الصدد فما عليك إلا أن تأمر فأفصله لك فى خطاب آخر تفصيلاً. ثانياً: عدل نسيم باشا قوانين الرتب والنياشين فجعل إعطاءها للأعيان من حقوق الملك وحده بلا مشاركة من الوزارة، وقد كانت تلك المشاركة واجبة بمقتضى القوانين، فعمد، غفر الله له ذنبه، إلى النص عليها فى المادة (41) من مشروع اللجنة حتى يجعلها مادة دستورية لا يجوز تعديلها بأن يكون للملك وحده إنشاء الرتب وأوسمة الشرف كما يشاء ومنحها لمن يشاء دون أى تدخل من الحكومة. ثالثاً: كان مشروع اللجنة يقصر حق حل البرلمان على مجلس النواب وحده، فقد رأى نسيم باشا سامحه الله أن يكون للملك حق حل المجلسين معاً أو بالانفراد، وهذه السلطة ليست فى مصلحة الأمة، ولا ندرى كيف انساق نسيم باشا لتقريرها غير مدرك ما لهذا التعديل من الخطر. رابعاً: كانت لجنة وضع الدستور تقضى فى المادة (71) بأن عدد المعينين من أعضاء الشيوخ لا يزيد على ثلاثين عضواً فقد جعله سيادته عدداً مساوياً لعدد المنتخبين. خامساً: عمد نسيم باشا إلى تغيير المادة (75) من المشروع بأن جعل تعيين رئيس الشيوخ من حق الملك وحده، وهو افتئات على حق المجلس لا يتفق مع مصلحة البلاد، ولا مع كرامة المجلس، بل لا كرامة العرش؛ لأنه ليس من كرامته فى القرن العشرين أن يلزم وجوه البلاد وكبراءها بقبول رئاسة رجل قد لا يرضونه. سادساً: عدل نسيم باشا المادة 39 من المشروع بأن جعل للملك حق إصدار مراسيم تكون لها قوة القانون حتى لو أثناء دور انعقاد البرلمان، وهذا خطر لا يجوز مطلقاً متابعة دولته عليه. سابعاً: سمعت أنه عدل المادة (42) فأخرج بعض معاهدات التجارة والملاحة من مراقبة البرلمان رغم ما فى ذلك من خطر. ثامناً: سمعت أنه عدل المادة (126) بأن رسم طريقة خاصة لكيفية تقرير الميزانية، وهذا حجر غير مقبول أصلاً، بل يجب ترك ذلك للوائح الداخلية تقرره كما يراه النواب. تاسعاً: أن دولة نسيم باشا قد أضاف إلى الدستور مادة حاصلها أن هذا الدستور لا يخل بالالتزامات المخولة للملك بصفته ولى أمر البلاد فيما يتعلق بمعاهد التعليم الدينى الإسلامى والأوقاف العمومية، وأن يحرم نواب البلاد من تنظيم الحقوق التى تكون القوانين الحالية خولتها عرضاً للملك، وهو شىء هائل جداً كان يجب أن يمنعه دولة نسيم باشا قبل أن يتورط فى الإشارة إليه. عاشراً: يقال إن نسيم باشا قد عدل المادة (147) من المشروع والخاصة بطريقة تنقيح الدستور فصعبها من وجهين: الأول زيادة الأغلبية اللازمة لإقرار التعديل، والثانى ضرورة تدخل الملك للتصديق على التعديل حتى فى المرحلة الأولى. وقد وجه عبدالعزيز بك فهمى خطابه إلى يحيى باشا قائلاً له: إنه كان من الواجب أن أسارع إلى تنبيهكم لما فى تلك التعديلات من الخطر على حقوق البلاد، وحتى إذا كنتم على أهبة إصدار الدستور، قدمتم تقوى الله على تقوى خلق الله، وعملتم بما توصي به الذمة والضمير الطاهر، وأصدرتموه لا على أنه مجرد منحة بل على أنه حق ثابت للأمة. وها قد بلغتكم، فأديت ما علىّ من الواجب، والأمانة الآن فى عنقكم إن شئتم أديتموها ولكم الشكر، وإن شئتم أهملتموها، وعليكم وحدكم الوزر. المخلص عبدالعزيز فهمى المحامى وقد وضع أعضاء لجنة الدستور احتجاجاً على هذا المسخ والتشويه وقعوه جميعاً وقدموه إلى يحيى باشا، وناشدوه أن يصدر الدستور على الأقل كما وضعته اللجنة. واستمرت الوزارة تتلكأ بإيعاز من السراى فى إصدار الدستور، فكتب عبدالعزيز فهمى بك خطاباً مفتوحاً ثانياً إلى يحيى باشا فى 15 أبريل، ذكر فيه ما استفاضت به الأنباء من تعديلات أخرى أريد ادخالها على الدستور، وأهاب بيحيى باشا إبراهيم ألا يرتكب هذا الإثم، وأن يسارع إلى إصدار الدستور، وأشار فى خطابه إلى التعديلات الجديدة التى يقال إنها ستلحق بمشروع الدستور، ومنها: أولاً: كانت المادة 41 من مشروع اللجنة تنص على أن «الملك يرتب المصالح العامة ويولى ويعزل جميع الموظفين المدنيين والعسكريين وذلك على الوجه المبين بالقوانين» أى أن ذلك يتم وفق القوانين التى يضعها البرلمان وتحت مراقبته، فامتدت يد العبث فحذفت من المادة عبارة «المدنيين والعسكريين» وعمدت إلى المادة 42 فحشرت فيها هذه العبارة فأصبحت المادة تجرى كالآتى: «الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية، وهو الذى يعين الضباط ويعزلهم، وهو الذى يعلن الحرب وعقد الصلح..». ونحن لا يضيرنا نقل ما يتعلق بالضباط من مادة بالدستور إلى مادة أخرى، ولكن الذى يضير هو حذف القيد الوارد فى المادة 41، وهو كون التعيين أو العزل حاصلاً على الوجه المبين بالقوانين. ثانياً: من حقوق الملك الخاصة بمقتضى المادة 45 تعيين الوزراء وإقالتهم ويقال إنه صار إشراك الممثلين السياسيين مع الوزراء فى هذا الحكم ونتيجة ذلك أن يصبح سفراء مصر فى الخارج ألعوبة فى أيدى رجال السراى، وتصبح سياسة مصر الخارجية هى سياسة السراى لا سياسة الحكومة المصرية. ثالثاً: يقولون إن اليد التى سطت على الدستور وحذفت من مشروع اللجنة المادة 56، والتى كانت تنص على أن «تكون الصلة بين الملك والوزراء رأسا وبالذات» وهى تقرر حقاً أساسيا للوزراء تمتنع معها الوساطة السيئة وسوء التفاهم، وفى حذفها ما يترك الباب مفتوحاً لرجال السراى يضربون من أنفسهم نطاقاً حول العرش ويستبدلون بالشورى على صاحب العرش، وهذا من أسوأ الأمور وأضرها بمصالح البلاد. رابعاً: يقولون إن يد العبث عدلت المادة «40» من الدستور بأن جعلت افتتاح الملك للبرلمان سنوياً بخطاب منه أمراً اختيارياً أى إن شاء فعله وإن شاء تركه وهذا غير جائز ألبتة لأن من تتملكه الشهوة الشخصية من الملوك، والعصمة لله وحده، قد يتخذ هذه الفرصة ذريعة لإظهار غضبه على البرلمان بالإمساك عن خطابه، وفى هذا من دواعى التأذى والاضطراب ما فيه، وإنا لنفضل حذف هذه المادة برمتها على إبقائها وفيها هذا التعديل المعيب. خامساً: تقصر المادة 59 من المشروع بأن أوامر الملك شفهية كانت أو كتابية لا تخلى الوزراء ولا غيرهم من عمال الدولة من المسئولية بحال، ويقال إنه صار حذف عبارة (ولا غيرهم من عمال الدولة).. صحيح أن مسئولية الوزراء تكفى، ولكن فى بلدنا حديث العهد بالديمقراطية والنظام الدستورى يلزم أن نحث جميع عمال الحكومة بأن الواجب عليهم الخضوع للقوانين ليس إلا بإثبات هذه العبارة فى دستورنا من ألزم ما يكون. سادساً: تعدلت المادة 100 من مشروع اللجنة فبدلاً من تقريرها أن حق استجواب الوزراء لا تجرى المناقشة فى الاستجواب إلا بعد ثمانية أيام على الأقل من يوم تقديمه، وذلك فى غير حالة الاستعجال أو موافقة الوزي، وصارت المادة بعد التعديل «وذلك فى غير حالة الاستعجال» وموافقة الوزير بدلاً من «أو موافقة الوزير» ومقتضى هذا التعديل أن يكون بين الوزراء محو كل أثر للاستعجال، وجعل المجلس مضطراً لانتظار ثمانية أيام على الاقل لتجوز مناقشة الاستجواب ولو كان متعلقاً بأمر من أمور الدولة المهمة، ثانياً يقال إنه فوق الميعاد الذى قررته المادة المذكورة فقد أضيف نص يقضى بأن اقتراح الاقتراع بعدم الثقة بالوزراء (وهو فى العادة يحصل عقب المناقشة فى الاستجواب) لا ينظر أيضاً إلا بعد ثمانية أيام أخرى، ومثل هذا النص المقترح إضافته لا معنى له إلا تهيئة الوقت للمساعى والدسائس التى تستعمل فى الخفاء لعدم المساس بالوزارة، وفى هذا إفساد أخلاق النواب وتقليل أهمية المسئولية الوزارية. سابعاً: تقضى المادة 125 بأن الاحتكارات والالتزامات لا تعطى إلا بتصريح البرلمان، فيقال إنه صار تعديل هذه المادة تعديلاً يجعل هذا الإعطاء من حقوق الحكومة وفق القوانين بدون حاجة لاشتراط تصريح البرلمان مقدماً.. نص هذا التعديل خطير على حقوق البلاد ويكفى ما قاسته فى الماضى من التفريط فى هذا الموضوع. ويستطرد عبدالعزيز فهمى فى خطابه موجهاً حديثه لرئيس الوزراء، ولا يمكن إغفال ما جاء فى خطابه هذا؛ لأنه انتصار لإرادة الأمة وانتصار لاستقلال القضاء وهيمنته على كل المنازعات، فيقول فى هذا الحديث: «وتلك يا سيدى أمور يتناقلها الناس ولابد انك رأيت أيضاً مما نشر ببعض الصحف ما تستدل منه على أن زميلك معالى ذو الفقار باشا اقترح على اللجنة التشريعية بجلسة 30/12/1922 جعل قانون الأسرة المالكة خارجاً من سلطة الحكومة والبرلمان لا يمكن مساسه بأى تعديل، ويقال إنه يراد تعديل الدستور بما يوافق هذا الاقتراح، ولست أدرى كيف أن هذا الافتئات المحض على حقوق البلاد يجوز فى مذهب معالى ذو الفقار باشا.. لقد كنت أنت يا سيدى رئيس المجلس الحسبى العالى وكان معاليه عضواً فيه معك، وقد حضرتكما تحكمان فيه على الأمراء كما تحكمان على عامة الناس، فالقضاء المصرى العادى مكتسب من زمن طويل حق الحكم فى الأحوال الشخصية على هؤلاء الأمراء، فبأى مسوغ يراد سلبه الآن- هذا الحق- نهائياً؟ وبأى مسوغ يمنع نواب البلاد من الاشتراك فى التقنين للأمراء فى هذا الشأن، ولا بد من تعديل مثل ذلك القانون أو إلغائه إذا تراءى لهم فى وقت ما أن العدل والمصلحة يقضيان بذلك؟ إنك يا سيدى لن ترضى بهذا السلب ولن توافق عليه. وغداً نستكمل الحديث