عندما تعلو إرادة الأمة فوق قوة السلطة ثورة 1919 رسخت لمبدأ سيادة الأمة والضغوط الشعبية حولته لواقع عملى لجنة الثلاثين ضمت يهودا وأقباطا وقاطعها الوفد وكان أول من جنى ثمارها ما أشبه الليلة بالبارحة . دستور جديد يولد من رحم الثورة ، تماما كما جرى فى دستور 1923 الشهير الذى كان رغم ما صاحبته من ارهاصات دستورا أليق بأمة لها كرامتها وعزتها . كانت مصر من أقدم دول العالم الثالث التى عرفت الدستور . وكان ذلك عام 1879 فى عهد الخديوى اسماعيل ، وعلى يد محمد شريف باشا وزيره الأكبر وموضع ثقته بتعبير المؤرخ الراحل جمال بدوى . كان للرجل رغم أنه ليس مصريا دورا واضحا فى تشكيل أول برلمان مصرى عام 1866 ، لذا فقد كان لدى الأمة المصرية موروث من النظام الدستورى، وإن كان بدائيا واقتصر على مبادىء عامة مبسطة ، كما أنه لم يستمر سوى ثلاث سنوات إذ عطلت السلطات البريطانية العمل بالدستور بعد احتلالها مصر عام 1882 . ومن هنا ، فإن كثيرون يعتبرون دستور 1923 هو أول دستور حقيقى لمصر يحدد نظام الحكم ويوضح حقوق المحكوم وواجبات الحاكم . واللافت أن ميلاد الدستور شهد صراعات شبيهة بصراعات القوى السياسية التى واكبت دستور 2012 باختلاف واحد هام هو أنه لم يكن هناك تيار سياسى دينى . وليد الثورة يرى كثير من المؤرخين منهم الدكتور عبد العظيم رمضان ، الدكتور رمزى ميخائيل ، ومحمد فهمى حشيش أن دستور 1923 كان أحد اهم ثمرات ثورة 1919 ، تلك الثورة التى اشتعلت بدءا من 9 مارس عام 1919 احتجاجا على اعتقال سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل واسماعيل صدقى ونفيهم إلى جزيرة مالطة . لقد عمت المظاهرات والاضرابات وأعمال العنف مختلف الأنحاء ووصل الحد باعلان استقلال بعض المدن المصرية ، وأصيب الاحتلال البريطانى بالقلق وبدأت مطالبات المصريين بالاستقلال والدستور والحكم النيابى . كانت الحياة السياسية فى مصر معطلة تماما منذ فرض الحماية البريطانية على مصر عام 1914 بدعوى الحرب العالمية الأولى . لم يكن المصريون وقتها يشعرون بأدنى كرامة فى ظل استغلال ووصاية بريطانية وقمع لكل حركة وطنية ونفى لشباب وشيوخ طالبوا بالاستقلال بدءا من محمد فريد وحتى عبد العزيز جاويش وغيرهم . ومع اتساع خسائر بريطانيا بسبب الثورة ، اضطرت السلطات البريطانية إلى الافراج عن سعد وصحبه وبعثت بريطانيا إلى مصر لجنة لتقصى الحقائق عرفت بلجنة ملنر وقاطعها الوفد وعادت دون عمل ، وتطورت الأوضاع عندما عقدت الجمعية التشريعية المعطلة منذ 1914 اجتماعا استثنائيا فى منزل سعد زغلول بعد عام واحد من الثورة حيث رفضت فيه قرار الحماية البريطانية وطالبت باستقلال مصر والسودان . فى تلك الاثناء كان الشباب الوطنى يؤلف تنظيمات بعضها ارتبط مباشرة بالجهاز السرى لثورة 1919 والذى كان يقوده عبد الرحمن فهمى وبعضها لم يرتبط به ، الا أن النتيجة كانت واحدة هى اجبار الساسة المصريين على عدم التعاون مع بريطانيا بعيدا عن الزعيم سعد زغلول . فى مايو 1920 استقال يوسف وهبة باشا بعد أن حاول شاب قبطى هو عريان سعد يوسف اغتياله وقام بتأليف الوزارة محمد نسيم . وفى باريس بدأت مفاوضات الوفد المصرى مع بريطانيا ورفض معظم أعضاء الوفد المشروع البريطانى المقترح للاستقلال وقطع المفاوضات وبعث سعد ببيان إلى الأمة يعلن فيه موقف الوفد والذى شهد خلافا شهيرا مع عدلى يكن وجماعته . ارهاصات الدستور وفى مارس 1921 شكل عدلى يكن الوزارة وكان مما أعلنه التحضير لدستور مصرى موافق للمبادىء الحديثة للأنظمة الدستورية . وقتها خرجت المظاهرات ضد عدلى يكن مؤكدة تمسك الأمة المصرية بسعد زغلول وجرت اضطرابات عنيفة سقط فيها كثير من الضحايا من المصريين والأجانب واضطر عدلى يكن إلى الاستقالة فى ديسمبر 1921قبل أيام قليلة من القبض على سعد زغلول ونفيه للمرة الثانية إلى جزيرة سيشل . وفى فبراير 1922وتحت ضغط الشارع المشتعل وعمليات الاغتيال المتعددة ضد الجنود البريطانيين تضطر بريطانيا إلى اعلان الغاء الحماية على مصر ، وقد صاحب ذلك تشكيل وزارة عبد الخالق ثروت الذى أعتبر أن مهمته الاساسية وضع دستور للبلاد . لجنة الثلاثين رغم الرفض الشعبى والكراهية الواضحة من جانب فئات المجتمع والساسة فقد أصرت وزارة ثروت على تنفيذ مشروع الدستور ، فألفت لجنة اطلق عليها لجنة الثلاثين لوضع دستور للبلاد برئاسة حسين رشدى رئيس الوزراء السابق بالاضافة إلى مجموعة من المفكرين ورجال القانون والعلماء ورجال الدين والتجار ورجال الاعمال . إنه من المثير أن اللجنة ضمت وقتها ممثلين للطوائف الدينية الثلاث هم الشيخ محمد بخيت شيخ الأزهر ، والأنبا يؤانس بابا الأقباط فضلا عن يوسف قطاوى رجل الاعمال وممثل الطائة اليهودية . وقد عملت تلك اللجنة فى ظل مقاطعة الوفد أكبر الاحزاب المصرية فى ذلك الوقت ورفض الحزب الوطنى وهو أكثر الاحزاب تطرفا فى الوطنية ، وعدم رضا الملك فؤاد الذى كان لا يرغب فى منح حقوقا سياسية للمصريين فى ظل هيمنته على شئون الحكم . ومع ذلك قامت لجنة الثلاثين بمهمتها وقدمت إلى الحكومة فى 21 اكتوبر 1922 مشروعا للدستور لذلك فقد دبر الملك تنحية حكومة ثروت رغبة منه فى تعطيل صدور الدستور بدعوى اتصاله بالخديو السابق عباس حلمى. وتم تكليف محمد نسيم باشا بالوزارة ووقتها وطبقا للمؤرخ عبد الرحمن الرافعى طلبت بريطانيا منه تعديل بعض النصوص والتى من بينها لقب ملك مصر والسودان وأجابها لطلبها مما أشعل نيران الغضب الشعبى مرة اخرى . وتكررت حوادث العنف وظل منصب رئيس الحكومة شاغرا إلى أن الملك فؤاد به إلى يحيى ابراهيم باشا . تعديلات مرفوضة كان غضب المصريين موجها إلى ما كان يتردد حول تعديلات أضافها عبد الخالق ثروت فى الدستور سلبت منه قول أن الامة هى مصدر السلطات ، وتزايد الغضب على سلفه لذات السبب حتى أن عبد العزيز باشا فهمى الفقيه الدستورى الكبير وقتها بعث إليه خطابا يرجوه باسم الوطن أن يصدر الدستور كما تم الاتفاق عليه فى لجنة الثلاثين دون تعديلات . ويورد المستشار سعيد الجمل فى دراسة تاريخية أبرز التعديلات التى قيل أن وزارة ثروت أدخلتها على الدستور فيما يلى : 1 النص على ان الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية وهو لاذى يعلن الحرب ويعقد الصلح بعيدا عن الحكومة . 2 منح الملك حق تعيين الوزراء واقالتهم بما يعنى ان الحكومة تتحول إلى تابع للسراى . 3 جعل افتتاح الملك للبرلمان كل عام اختياريا . 4 تفويض الحكومة بدلا من البرلمان حق منح الاحتكارات والالتزامات . ورضخت حكومة يحيى ابراهيم للمطالب الشعبية وأقرت الدستور كما أعدته لجنة الثلاثين مع استثناء المادتين الخاصتين بالسودان والتى أصرت بريطانيا على حذفهما . وأصدر الملك فؤاد فى 19 ابريل 1923 أمرا باصداره ، وهنا فإنه لم يكن منحة من الملك وانما جاء تحت ضغط شعبى متزايد ثمار الدستور والواضح أن موقف الوفد من الدستور تدرج من وصمه لجنة تشكيله بلجنة الأشقياء إلى المشاركة بشكل غير مباشر فى اقتراح بعض التعديلات إلى استثماره فى الفوز بأول حكومة شعبية منتخبة انتخابا حقيقيا . ففى سبتمبر 1923 عاد سعد زغلول بعد أن أفرج عنه صحيا وأدارت حكومة يحيى إبراهيم الانتخابات البرلمانية بحياد تام وحقيقى مما أسفر عن فوز الوفد ب194 مقعد من إجمالى 214 مقعدا واستقال يحيى ابراهيم ودعا الملك فؤاد ، الزعيم سعد زغلول لتشكيل الحكومة ويلمح المؤرخ الكبير عبد الرحمن فهمى عدم ذكر الملك فى خطاب تأليف الوزارة أن المكلف نال ثقة الأمة ، الا أن سعد أكمل ذلك فقال فى خطاب قبول الوزارة أنه قبل الوزارة احتراما لإرادة الأمة وارتكاز الحكومة على ثقة وكلائها . ويمكن القول أن من أبرز خصائص دستور 1923 اعلانه فى المادة الأولى أن مصر دولة ذات سيادة ، وتأكيده أن الأمة المصرية هى مصر السلطات . بالاضافة إلى كفالة الحرية الشخصية وعدم القبض على أى انسان إلا فى اطار القانون . كما كفل حرية الصحافة فى المادة رقم 15 وحظر فى المادة السابعة ابعاد أى مصري بعيدا عن الديار المصرية وحظرت المادة العاشرة عقوبة مصادرة الأموال ، ونصت المادة الحادية عشر على استقلال القضاء . كما نصت المادة الثالثة عشر على مسئولية الحكومة امام البرلمان .