فى عيد الإذاعة المعروف بعيد الإعلاميين تتوارد فى خاطرى مشاعر مختلطة من الفرح الطبيعى الذى يصاحب حلول العيد والحزن لما آل إليه حال الإذاعة المصرية التى كانت لسنوات طويلة صاحبة الصوت الأكثر تأثيرًا. فى عيد الإذاعة هذا العام أضيفت إلى مشاعر الحزن المتكاثرة قضية التجاهل المؤسف رسمياً وإعلامياً للأجيال، التى كان لها الفضل الأكبر فى الوصول بالإذاعة المصرية فى عصرها الذهبى إلى موقع القمة بين الإذاعات العربية، بل وبين إذاعات عالمية موجهة إلى المنطقة العربية والأفريقية. وللإنصاف فإننى لا أوجه العتاب إلى وسائل الإعلام المختلفة التى لا تعرف الكثير عن تاريخ الإذاعة، ولكننى أخص بالعتاب القيادات العليا بوزارة الإعلام التى تجاهلت طوال سنوات تسجيل التاريخ الحقيقى للإذاعة المصرية، وأضيف إلى الجهات التى أتهمها بالتقصير كليات الإعلام فى الجامعات المصرية، التى كان عليها أن تضع بين مناهجه أقسام الإذاعة والتليفزيون بها دراسات عن التاريخ المفصل للإذاعة والتليفزيون فى مصر. ومن المهم أن ندرك أن التسجيل الأمين لتاريخ الإذعة المصرية له علاقة مباشرة بالتطورات الاجتماعية والسياسية فى مصر خاصة فى فترة الخمسينيات وحتى ثمانينيات القرن العشرين، فضلاً عن العلاقة القوية بالنشاط الفنى والثقافى العربى عامة والمصرى خاصة. على الصعيد السياسي تم تمصير الإذاعة المصرية فى الحادى والثلاثين من مايو عام 1934 وتولى الحكومة المصرية إدارة الإذاعة التى كانت خاضعة لسلطة الاحتلال الإنجليزى وتديرها شركة ماركونى البريطانية. من أهم الأحداث التى شهدتها الإذاعة المصرية الخطاب الشهير لمصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر الذى أعلن فيه «إلغاء معاهدة 1936» وبدأت الإذاعة المصرية بعد تمصيرها تمارس دوراً وطنياً متميزاً وتؤازر الحركة الوطنية المصرية المتصاعدة ضد قوات الاحتلال. وجاءت ثورة يوليو لتضع تطوير الإذاعة على قمة أولوياتها، ولعبت الإذاعة المصرية دوراً سياسياً بالغ الأهمية على الصعيد الداخلى بتعبئة الجماهير لمؤازرة القرارات السياسية التى تتخذها قيادة الثورة. أما الدور الأكثر وضوحاً فقد تمثل فى التأثير الكاسح على مستوى الجماهير العربية الذى خصصت له الإذاعة المصرية إذاعة خاصة هى «صوت العرب». وتوازى مع هذا التأثير الجماهيرى عربياً، تأثير امتد إلى الجماهير الأفريقية، فقد كانت حركات مقاومة الاستعمار فى الدول الأفريقية تتصاعد بنشاط كبير، وتبنت مصر مطالب حركات التحرر الأفريقية، وأسندت القيادة السياسية للإذاعة مهمة الدعم الجماهيرى لحركات التحرر الأفريقية هذه، فقامت الإذاعة بإطلاق عدداً هائلاً من الإذاعات الموجهة إلى البلاد الأفريقية والتى تبث برامجها باللغات الأفريقية مثل السواجيلى والفولاني، ووجدت قيادات حركات التحرر الأفريقية فى القاهرة الموقع الذى تستطيع منه توجيه الجماهير فى بلادها عبر أثير الإذاعات الموجهة، وأصبحت الإذاعة المصرية فى تلك الحقبة مركز قيادة حركات التحرر الأفريقية، ففى استديوهات الإذاعة المصرية كانت قيادات المقاومة الأفريقية تعد بياناتها ونداءاتها. وساهمت الإذاعة ببراعة فى خطط الخداع الاستراتيجى الذى وضعته القيادة المصرية قبيل حرب التحرير عام 1973، وعندما بدأت حرب أكتوبر كانت الإذاعة المصرية هى الصوت المعبر بصدق عن مشاعر الفخر والشموخ للشعب المصرى. وعندما نتصدى لتسجيل التاريخ السياسى للإذاعة المصرية فلابد من أن نسجل بأمانة الدور السلبى الذى لعبته الإذاعة والتليفزيون خلال العقدين الأخيرين من حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، فقد تم استغلال الإذاعة والتليفزيون لتبرير كل ما ارتكبه النظام السابق من جرائم ضد الشعب المصرى. على الصعيد الثقافى كان للإذاعة المصرية منذ تولتها إدارة مصرية دور بالغ الأهمية على الصعيد الثقافي، وكان هذا التوجه طبيعياً نتيجة لإسناد مهمة «المذيعين» إلى شخصيات لها إسهاماتها الواضحة والمتميزة على الساحة الثقافية، ويكفى أن نعرف أن المجموعة الأولى من المذيعين ضمت الدكتور حسين نصار والأستاذ أحمد رشدى صالح والدكتور على الراعى والأستاذ محمد فتحى والشاعر صالح جودت، وهذه الأسماء كانت من 9 شباب المثقفين الذين أصبحوا فيما بعد من قيادات الفكر والنشاط الثقافى فى مصر والوطن العربي. وعلى نفس النهج وضعت الإذاعة المعايير الصارمة لاختيار مذيعيها، فلم يسمح لغير المثقفين الموهوبين بالالتحاق بمهنة المذيع أو محرر الأخبار، وكانت الامتحانات والاختبارات الدقيقة هى الطريق الذى يتحتم على الراغبين فى الالتحاق بالإذاعة أن يعبروه، وتتالت نتيجة لذلك موجات المحررين والمذيعين والمخرجين الذين يتمتعون بقدر وافر من الثقافة وبموهبة خاصة تجعلهم يملكون القدرة على تقديم الرسالة الإذاعية المتميزة، وهذه الأجيال من المذيعين المثقفين هى التى ارتفعت بالإذاعة المصرية إلى القمة بين الإذاعات العربية رغم قسوة «الرقابة السياسية» فى الستينيات، فقد تميزت البرامج الإذاعية فى تلك الحقبة بمستوى ثقافى راق. وكانت الشخصيات البارزة فى الساحة الثقافية بكل أجناسها هى نجوم الإذاعة. وأعتقد أن الباحث الذى سيعكف عن كتابة تاريخ الإذاعة سوف يتوقف طويلاً أمام فترة التردى التى هبطت بالإذاعة المصرية إلى الحضيض، وسوف يكتشف أى باحث أن هذا التردى يرجع فى الأساس إلى فتح الأبواب واسعة لتتدفق أعداد هائلة ممن لا يتمتعون بالحد الأدنى من الثقافة أو الموهبة التى تؤهلهم للالتحاق بالإذاعة. على الصعيد الفنى وسوف يكتشف الدارس لهذا التاريخ أن رواد الإذاعة الأول والأجيال التى تلتهم حتى نهاية الستينيات كانوا من الموهوبين فى مختلف الفنون، ويكفى أن نعلم أن المسئول عن الموسيقى والغناء فى تلك الأيام كان الموسيقار مدحت عاصم ومن بعده الموسيقار محمد حسن الشجاعى، وأن المسئول عن الأعمال الدرامية هو الفنان سيد بدير والأديب المتميز أنور المشرى وأن لجنة النصوص الغنائية كان المسئول عنها الشاعر محمود حسن إسماعيل. هذه عينة من المسئولين عن النشاط الفنى والإنتاج الموسيقى والغنائى الذى كانت الإذاعة تقدمه. ويكفى أن نستمع الآن إلى الصور الغنائية التى أبدعها محمد محمود شعبان وعبدالوهاب يوسف وأنور المشرى لندرك مدى الرقى الفنى لهذه الأعمال التى تم إنتاجها بأدوات تعتبر بمقاييس الأدوات المتوفرة الآن أدوات بدائية. هذه خواطر يستدعيها الأسف على حال الإذاعة، وتتكثف مع حلول يوم عيد الإذاعة، فهل أطمع أن تتصدى كليات الإعلام بالجامعات المصرية لأمانة البحث الجاد لتسجيل تاريخ الإذاعة المصرية؟