المال والبنون زينة الحياة الدنيا، خلق الله الإنسان، وجعل النسل للتوارث وعمارة الكون وجعل الرحمة والشفقة على الوليد فى قلب الأم سواء كانت من الإنسان أو الحيوان أو الطير لم نسمع أو نر على مر الأزمان أن حيواناً أو طيراً افترس صغيره، بل العكس تماماً قد تصارع الأم عن صغيرها حتى لا يفترسه أسد أو ذئب مفترس، تلك الرحمة التى أنزلها الله فى قلب الحيوان لحماية صغيره، وبرغم أن الله عز وجل ميز الإنسان عن المخلوقات بالعقل، إلا أن الرحمة قد تنتزع من قلوب البشر حتى يستعجب منها الطير والحيوان. تلك هى الفطرة التى فطر الله الإنسان عليها، جعل الرحمة والحنان فى قلب الأم والأب لحماية ورعاية فلذات أكبادهم، وما دون ذلك فهو خارج عن النواميس الكونية، فالأم هى منبع الحنان والرحمة، هى من ترعى وتخاف على حياة وليدها، يرتجف قلبها فرحاً حينما يكبر، ويظل طول العمر فى عيون أمه طفلاً صغيراً، ولكن حينما تتجرد الأم من أسمى صفات الإنسانية، وهى الرحمة والحنان وتستبدلهما بالجحود، تكون الكارثة الكبرى، وتلك هى قصتنا مع إحدى الأمهات. عاش «صادق» و«نادية» أحلى أيام العمر، كانت السعادة ترفرف بأجنحة الفراشات بجوانب المنزل، كانت أحلامهما كبيرة فى بناء أسرة سعيدة، وأولاد يرسمون البسمة والفرحة، ومذاق الشهد بين جنبات المنزل بعزبة بنيامين بسمالوط شمال محافظة المنيا بصعيد مصر. أنجبت «نادية» طفلتها الأولى، وفرح بها الجميع، أطلقوا عليها اسم «كاميليا» لجمالها الذى ليس له مثيل، وأغدق عليها الأب والأهل بالهدايا، فرحة غامرة بالمولود، احتضنوها بالدفء والحنان، عام ونصف مرت على مولد «كاميليا» مثل البرق، كانت تملأ المنزل فرحة وبهجة بابتسامتها وضحكتها البريئة، وكأى طفلة حينما تشعر بأى ألم تبكى بكاء الاستغاثة، ولكن الأم «نادية» انقلب حالها رأساً على عقب، لم تعد تطيق صوت بكاء طفلتها «كاميليا» طوال الليل. كانت تضج من كثرة بكائها، وأصيبت بالأرق والإنهاك نتيجة البكاء المستمر وعدم النوم، وبدلاً من أن تعرف ما هو سر البكاء الدائم للطفلة، كانت تتعارك مع نفسها، وكأن «كاميليا» فتاة كبيرة تعرف ماذا تفعل، أصيبت الأم بحالة اكتئاب وضجر، ولم تعد تطيق العيش فى المنزل من كثرة بكاء الطفلة، والزوج يحاول تهدئتها ولكن دون جدوي. يخرج الزوج فى الصباح لعمله، والزوجة تستيقظ من نومها لعمل شيء ما برأسها يريحها من عذاب بكاء طفلتها إلى الأبد، الذى يقلق منامها، تجذب طفلتها البريئة وهى تلعب مع ألعابها، ترفعها بين ذراعيها، وتسير كالمجنونة، شاردة تائهة، لا تعرف ماذا تفعل وإلى أين تذهب، تقودها قدماها إلى حافة ترعة الإبراهيمية، وقتها يوسوس لها الشيطان، "ارميها فى الترعة، واستريحى منها ومن بكائها الدائم، ولا من شاف ولا من دري". وقتها نزعت الرحمة وحنان الأمومة من قلبها، تتقدم بخطوات مرتجفة تلقى ابنتها وهى ممسكة بملابسها تلقيها فى مياه ترعة الإبراهيمية، والطفلة تصرخ مستغيثة من صقيع وبرودة المياه، «كاميليا» تصرخ، تبكى وتبكى لحظة خروج روحها البريئة، دموعها الطاهرة اختلطت بأمواج الترعة المتدفقة، ولكنها برغم قسوتها، كانت أحن عليها من قلب الأم، احتضنتها ترعة الإبراهيمية بعدما لفظها حضن الأم. ماتت «كاميليا» وعادت الأم "نادية" فى حالة هيستيريا، يسألها الزوج بعد عودته من العمل عن ابنته وفلذة كبده "كاميليا" لتعترف له الزوجة أنها ألقتها بترعة الإبراهيمية حتى تستريح من بكائها، جن جنون الأب، وعلى الفور قام بالإبلاغ عن جريمة زوجته النكراء، وفور وصول الأمر للواء مجدى عامر، مدير أمن المنيا، كان على رأس قوة أمنية للقبض على الأم اعترفت تفصيلياً بالواقعة ليتم إحالتها إلى الطب النفسى للتأكد من سلامة قواها العقلية لكون ما قامت به من جريمة شنعاء لا يصدقه عقل بشر، بعدها تدخل «نادية» فى وصلة بكاء وهيستيريا، وصلة بكاء ويتحملها الجميع، برغم أنها لم تتحمل بكاء طفلتها الرضيعة.. لم تعد الأم تصدق ما فعلت كيف ألقت بطفلتها وعادوا بها جثة هامدة لا حراك لا بكاء.. لا لعب.. لا شيء؟ راحت «كامليا».. حاولت الأم حملها مرة أخرى وأخيرة، ولكن منعتها الكلابشات التى أحاطت بيديها.. وقفت ذائغة العينين تائهة النظرات.. تتساءل بدون كلمات: هل أنا ما فعلت ذلك؟.. هل أنا من قتلت ابنتها؟.. أسئلة النيابة لا إجابة عنها سوى الشرود والدموع، وتودعها فى مهمة نفسية لقياس مدى سلامة قواها العقلية وتدفن «كامليا» ليصبح البيت خاوياً صامتاً.